من الخير أن نعلم شيئاً عن منازع الطبيعة الإنسانية التي لا يصح أن تقاوم لأنه لا معنى لمقاومتها!
والغناء بعض هذه المنازع التي ترتاح إليها النفس وتسلم إليها الجماهير مقادها، وتجد فيها متنفساً لعواطفها المكبوتة.
والكثرة العظمى من الناس يصغون إلى الأنغام المتسقة، والأصوات الطروب، ويتفتح المستعصى من مشاعرهم على هذه الأصداء الشجية أو المرحة.
وربما نسوا متاعبهم، وتجدد نشاطهم، واستأنفوا السير الجاد في مواكب الحياة، كما تستأنف الإبل اندفاعها في قلب الصحراء على حداء القائد اللبيب.
وقد فهم قادة الأمم هذه الطبيعة، فاستغلوا الأغاني في سبيل تدعيم نهضتهم والتمكين لها من أفئدة الناس.
وكان للصحابة غناء طيب، حفروا الخندق حول المدينة على نبراته، وذرعوا الصحراء الفسيحة وهم يرددون مقطوعاته.
وللشعوب المتحاربة الآن غناء أدى رسالته الرهيبة في دفع أبنائها إلى الميدان الدامي!
ونحن لا ننكر الغناء، ولا نتجاهل أثره، وكثيراً ما ألمح طوائف الشباب تسمع وتستعيد، فلا يؤسفني إلا شيء واحد: هو أن هذا الاستماع يثير الشهوة، ولا يثير دماء التضحية؛ ويهيج عواطف اللهو الخبيث، ولا يهيج عواطف المرح الطيب والنخوة العالية.
إننا لا نحرم الشعوب من متعتها، ولكن هذه المتعة ستقتلها إذا تناولتها بهذه الطريقة المجنونة.
إننا بحاجة إلى الأغنية الجادة ذات المعاني الكريمة والأهداف النبيلة، فلنوجد هذه الأغاني أو هذه الأناشيد، ولنزاحم بها ما يملأ حياتنا الشرقية من لغو وعبث.
إن الشعوب دائمة الحركة، فإن لم يتحكَّم في حركتها أهل الخير تحكَّم فيها أهل الشر، وهي دائمة الغناء، فإن لم يغنِّ لها العقلاء غنى لها السفهاء.
______________________
1- نُشر المقال في مجلة «الإخوان»، عدد (42)، بتاريخ 26 أغسطس 1944م، الموافق 7 رمضان 1363هـ.
2- انظر: مقالات الغزالي (4 /117-118)، ومعالم الحق في كفاحنا الإسلامي الحديث، ص 201.