كتب- د. حسن علي دبا:
تمثل النشأة الإخوانية لدى العلاَّمة د. يوسف القرضاوي رافداً مهماً في مسيرته الدعوية والفكرية والفقهية، ولا تزاحمها نشأة أخرى إلا النشأة الأزهرية، وإذا كان د. القرضاوي قد أصبح علَماً من أعلام الأمة الإسلامية، فإنه لا ينكر النشأة التي نشأها في جماعة الإخوان المسلمين وتعلمه من إمامها؛ ولذا فإنه وجد أن الكتابة عن هذه الجماعة أمر لازم.
ولم تكن هذه المرة هي الأولى التي يكتب فيها د. القرضاوي عن الإخوان، فقد كتب من قبل “التربية الإسلامية ومدرسة حسن البنا”، ومع أنه خصَّ سبب الكتابة بما كان في أحد البرامج الفضائية العربية، فإن المراقب لفكر القرضاوي وعلمه يجد أن عموم المعنى الذي أراده أكبر من خصوص السبب الذي دعاه للكتابة، فقد قام د. القرضاوي في هذا الكتاب الذي تعرض “المجتمع” فصولاً منه بجهد تحليلي ووثائقي زاد على ثلاثمائة صفحة، وعبر أربعة أبواب.
فقد تناول في الباب الأول: “الإخوان المسلمون: دعوة اكتملت، مقومات الحاجة إلى الدعوة – التمييز، ووضع الشخصية، حسن البنا القائد المنتظر، الجنود الصادقون، وضوح الأهداف وشمولها، وضوح الوسائل، وضوح المواقف، وفي الباب الثاني: “الإخوان المسلمون: خصائص ومميزات”: النظرة الشمولية للإسلام، الاتجاه إلى التجميع والتوفيق، العناية بالتكوين المتكامل، وفي الباث الثالث: “الإخوان المسلمون: ثمار وآثار”: من ثمار الحركة وآثارها، الإخوان والمحن، وفي الباب الرابع: “الإخوان المسلمون: ردود على تساؤلات واتهامات”: الاتهامات الظالمة، الإخوان وتسييس الدين، الإخوان وخط المدرسة الإصلاحية، الإخوان والأقليات الدينية، الإخوان والعنف، الإخوان وإقامة الدولة المسلمة، الإخوان والمشروع الحضاري، الإخوان والعقيدة، الإخوان والتصوف، والخاتمة: لماذا يعادون الإخوان؟
من التجربة التي نشأ فيها، ومن الكتب التي خطها آخرون، وبريادة تيار الوسطية وبقلم الفقيه، وروح الكاتب الأديب، ومن واقع الأمة الإسلامية التي يجول بشرقها وغربها وتستفتيه جماهيرها، ومعاصرة يفقدها كثير من المعاصرين، وبميزان ناقد بصير، وعالم متمكن؛ خطَّ القرضاوي هذا الكتاب مبرزاً آراءه وشهادته التي تطلعت إليها الأمة حول أكبر جماعة إسلامية في القرن العشرين.
وإلى المقدمة:
في يوليو 1998م، أذاعت قناة “الجزيرة” في دولة قطر حلقة مثيرة في برنامجها الشهير “الاتجاه المعاكس” عن “جماعة الإخوان المسلمين” بمناسبة مرور سبعين عاماً على تأسيسها.
وكان الطرف الأول في الحوار هو أ.د. توفيق الشاوي، الأستاذ السابق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة، عضو الهيئة التأسيسية للإخوان، الكاتب الإسلامي المعروف.
والطرف الآخر هو اللواء فؤاد علام، الذي كان أحد ضباط مباحث أمن الدولة الذين اشتهروا بتعذيب الإخوان في سنة 1965م حتى أطلقوا عليه “ملك التعذيب”.
وبعد أن أحيل إلى التقاعد ظلت عقدة تعذيب الإخوان تلاحقه، وكان المظنون أن يعترف بذنبه، ويستغفر الله تعالى ويتوب إليه مما صدر منه، ولكنه أصدر كتاباً سماه “الإخوان وأنا”، برَّأ فيه نفسه وألصق التهمة بالإخوان كل نقيصة.
وعلى كل حال، فشهادة مثله مردودة، لأكثر من سبب؛ وأول هذه الأسباب أنه خصم، ولا يكون الخصم شاهداً، ولا حكماً، وقديماً قال العرب: “من استرعى الذئب فقد ظلم”!
ولهذا، استغربت من البرنامج أن يستضيفه أكثر من مرة، وهو ليس من أهل العلم والفكر، ولا من أهل الدين والشرع، واستغربت د. الشاوي أن يقبل محاورته!
وقد طرحت قضايا في هذه الحركة، بعضها من أناس تكلموا بالهاتف لم تأخذ حقها من الإيضاح، وتساؤلات لم يجب عنها كلها، إما لضيق الوقت، أو لضيق الصدر، أو لغير ذلك.
وقال لي بعض الإخوة: لماذا لا تكتب شيئاً في ذلك ينصف الإخوان، ويرد على اتهامات المغرضين، ويضع الأمور في نصابها، وللإخوان حق عليك، وإن كنا نعلم أنك الآن للمسلمين جميعاً.
قلت للإخوة: هذا حق، وأنا بالفعل ملك أمتي الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، ولكني لا أتنكر لدعوة الإخوان، ولا أجحد أني نشأت في ظلها، وتعلمت من إمامها وإخوانه وتلاميذه، وصهرت في بوتقتها حتى نضجت في العلم والفكر.
ولهذا، أرى لزاماً عليَّ أن أمسك بالقلم، لأكتب هذه الصحائف، لأجلو الغبار عن وجه الدعوة الإخوانية، وألقي بعض الضوء على حقيقة أهدافها ومناهجها، ومقوماتها وخصائصها، وأعطي بعض الإشارات واللمحات عن سيرتها ومسيرتها، وعن ثمراتها وآثارها، وعن معاناتها ومحنها، وأرد على التهم الموجَّهة إليها، مركِّزاً على موقف مؤسس الحركة الإمام الشهيد حسن البنا مستشهداً بكلماته، ناقلاً من رسائله بشكل أساسي، باعتبارها “المنهاج الرسمي” للإخوان، الذي ارتضوه، وانضموا للجماعة على ضوء توجيهاته وتوجهاته، وربما أطيل النقل أحياناً –على غير ما يوصي به الأكاديميون- لمزيد من البيان والتوثيق، وإن كان المصدر الأول للحركة من غير شك هو القرآن والسُّنة، ولهذا كان من شعار الجماعة “القرآن دستورنا والرسول زعيمنا”.
وكان من أصول الجماعة التي ذكرها الشهيد البنا: “كل أحد يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم”.
ولكن حركة الإخوان بعد سبعين عاماً أصبحت أوسع من رسائل الإمام البنا وتراثه، إنما هي كل التراث الفكري والعملي والجهادي التراكمي للتيار الإسلامي الكبير، الذي مضى في طريق حسن البنا واستمد منه، وأضاف إليه، وربما عدَّل منه في بعض الأحيان.
وحديثي عن حركة الإخوان هنا ليس حديث المؤرخ المستوعب، فلست أزعم أني أملك الأدوات اللازمة لذلك، ولا الوقت الكافي له، وإنما هو حديث موجز بعض الإيجاز، يجيب عن بعض التساؤلات، ويضع بعض النقاط على بعض الحروف، من امرئ عاش في الإخوان، وعايش الأحداث، وخاض غمار المحن في عهد الملكية وعهد الثورة، مع إخوانه الذين صبروا وصابروا ولم يزدهم الابتلاء إلا ثباتاً وإيماناً: (فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {146} وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ) (آل عمران).
والحق أني ما كنت أتوقع أن يطول بي البحث إلى هذا الحد، ولكن هكذا كان، وهو ليس بكثير على أولى الجماعات الإسلامية من حيث الزمن، وكبرى الجماعات من حيث العدد، وأوسع الجماعات من حيث المساحة، فللإخوان وجود وأتباع في أكثر من سبعين قُطراً.
هذا، وقد كنت أخذت على الإخوان –ولا أزال– أنهم لم يكتبوا تاريخهم بطريقة علمية موضوعية موثَّقة، بعيداً عن كتابة “المتحاملين” من خصوم الإخوان، أو خصوم الإسلام، وعن كتابة “المناقبيين” من كتَّاب الإخوان، الذين ينظرون إلى تاريخ الإخوان على أنه جميعه مناقب وأمجاد، بل ينبغي النظر إلى الإخوان نظرة وسطية منهجية، تقول ما لهم وما عليهم، مميزين بين أصولهم وأهدافهم الإسلامية التي لا ينبغي الخلاف عليها، ومواقفهم واجتهاداتهم البشرية، باعتبارهم مجموعة من المسلمين تجتهد في خدمة الإسلام، والنهوض بأمته، وإعلاء رايته، ونصرة قضاياه، مغلبين حسن الظن، واكلين السرائر إلى ربهم، فإن أصابت هذه المجموعة فلها أجران، وإن أخطأت بعد اجتهادها فلها أجر واحد، كما علَّمنا رسول الإسلام عليه الصلاة والسلام، وكل منصف يدرك أن أكثر اجتهادات الإخوان كانت صواباً، والحمد لله.
وينبغي –لكي نكون منصفين علميين حقاً– أن نضع الأحداث في إطارها الزمني، ولا نخرجها عن سياقها التاريخي، وأن نفهمها كما نفهم النصوص في ضوء أسبابها وملابساتها ومقاصدها.
ولقد بدأ عدد من الإخوان يكتبون بصفة فردية، مثل الأستاذين محمود عبد الحليم، وعباس السيسي، وغيرهما، كما كتب بعضهم عن مؤسس الحركة الإمام البنا رضي الله عنه، وهذه كلها خطوات في الطريق، إلى كتابة التاريخ العلمي الذي تشرف عليه الجماعة، وتكله إلى أساتذة متخصصين، قادرين على التوثيق والنقد والموازنة والتحليل.
ومن عجائب الأقدار أني أبيض هذه المقدمة في منتصف شهر فبراير 1999م؛ أي بعد خمسين سنة شمسية تماماً من مقتل الإمام حسن البنا، الذي اغتيل في الثاني عشر منه (12/2/1949م) ليكون هدية للملك فاروق في عيد ميلاده الذي احتفل به يوم 11/2/1949م وهو يوم إجازة رسمية في مصر في ذلك الوقت.
وما زلت أذكر ذلك اليوم الذي قرأنا فيه نبأ اغتيال الشيخ البنا، فقد كان يوم خروجنا من سجن شرطة قسم أول طنطا، بعد أن مكثنا فيه نحو أربعين يوماً، وذلك لترحيلنا إلى معتقل الطور، كانت الصحف ممنوعة عنا، ولا نعرف شيئاً عن أخبار الدنيا، إلا إذا جاءنا ضيف جديد من الإخوان لينضم إلينا، فكانت الفجيعة الفظيعة أن يكون أول خبر نقرؤه بعد هذه المدة هو خبر استشهاد مؤسس الحركة رضي الله عنه.
فهذا الكتاب جاء في مناسبتين مهمتين:
مرور سبعين عاماً شمسية أو ميلادية على تأسيس جماعة الإخوان المسلمين، وأكثر من اثنين وسبعين عاماً قمرية أو هجرية، في ذي القعدة 1347هـ الموافق مايو 1929م، كما تبين ذلك بالدليل، وليس عام 1928م كما هو مشهور.
ومُضيّ خمسين عاماً على استشهاد الإمام البنا، وقد كنت كتبت بمناسبة مرور ثلاثين سنة، مضى نصف قرن على هذا الاستشهاد.
وعلى كل حال، هذه شهادتي أكتبها للحق والتاريخ، وقد قال الشاعر:
وما من كاتب إلا سيبلي ويبقي -الدهر- ما كتبت يداه!
فلا تكتب بخطك غير شيء يسرك في القيامة أن تراه!
___________________________________________________________________
العدد (1352)،17 صفر 1420ه / 1يونيو 1999م، ص42-43.