لم يرد في التشريع الإسلامي نظام سياسي محدد ينبغي الالتزام به، وكل ما ورد في هذا المجال مجموعة من المبادئ العامة التي لا نستطيع من خلالها معرفة آلية اختيار الحاكم ومدة ولايته وكيفية عزله عند العجز أو الفساد.. فلماذا تفرضوا علينا اتباع هذا النظام؟!
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
جذور هذه الشبهة التي يتبناها أذيال العلمانية الغربية في بلادنا ترجع إلى كتاب «الإسلام وأصول الحكم» لعلي عبدالرازق؛ حيث ادعى أن نظام الحكم زمن النبي صلى الله عليه وسلم كان موضع غموض، وإبهام، وخفاء، ولبس.
ونؤكد هنا للتاريخ أن هذا الكتاب الذي صدر في عام 1925م أثار ضجة كبيرة بسبب ما ورد فيه من إنكار لعلاقة الإسلام بشؤون الحكم؛ مما دفع علماء الأزهر في حينه إلى الرد عليه، فأصدرت هيئة كبار العلماء في مصر بتوقيع 24 عالماً بياناً ذكروا فيه أخطاء الكتاب البارزة، ثم توالت الردود العلمية، فكتب الشيخ محمد الخضر حسين: «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم»، وكتب الشيخ الطاهر بن عاشور: «نقد علمي لكتاب الإسلام وأصول الحكم»، وألَّف الشيخ محمد بخيت المطيعي رسالته: «حقيقة الإسلام وأصول الحكم»، وأرَّخ د. محمد ضياء الدين الريس للتفاصيل السياسية المتعلقة بصدور الكتاب في رسالته: «الإسلام والخلافة في العصر الحديث».
تراجُع عبدالرازق
يقول الشيخ محمد الغزالي، في كتابه «الحق المر»: عرفت الشيخ عبدالرازق في أواخر أيامه، كان يصلي الجمعة معي في الأزهر الشريف، ويبكر لسماع الخطبة، ويعاتبني أحياناً عندما أطيل -لمرض أصابه- ونشأ بيننا ما يشبه الود!
كنت أكرهه أولًا لكتابه «الإسلام وأصول الحكم»، فقد خلط فيه خلطاً منكوراً بين آيات نشر الدعوة وآيات إقامة الدولة، ووقع هذا الخلط في حين أسود، سقطت فيه دولة الخلافة وأطبق الاستعمار العالمي علينا من كل جانب، فكان الكتاب خطأ عقلياً وخطيئة خُلقية.
وها هو ذا الرجل قد رجع إلى الله تعالى، وعرفت أنه أبى إعادة طبع الكتاب! وأهال التراب على هذه الذكرى، إنها توبة سلبية! كان الأستاذ خالد محمد خالد أشجع منه وأتقى لله عندما وقع في مثل خطئه ثم ألَّف كتاباً آخر أثبت فيه أن الإسلام دولة ودين، ونتج عن سلبية الشيخ عبدالرازق أن الكتاب الذي رجع عنه ينشره الآن نفر من أعداء الإسلام وكارهي دولته(1).
إلا أن حسام عبدالظاهر يؤكد عدم تراجع عبدالرازق فيقول على لسانه: إننا نرجو أن يعلم حضرات الناقدين أننا ما خططنا في كتابنا كلمة إلا من بعد أن عرفنا وجوهها، وكنا على بينة من مصادرها ومواردها، ذلك تفكير بضع سنين، ورغم أنف المكابرين وما كنا لنخشى أن نتحمل تبعة شيء مما جئنا في كتابنا بعد ذلك البحث، ولا لنرجع عن رأي اعتقدناه وقررناه فيه لمجرد صيحات وحركات ليس فيه أثر لسلطان الحق ولا قوة النزاهة والإخلاص لله تعالى(2).
أدلة النظام السياسي في الإسلام
لقد جاء الإسلام بنظام سياسي، وطلب من المسلمين الالتزام به دون ما سواه من الأنظمة السياسية، من هذه الأدلة:
أولاً: القرآن الكريم:
– قوله تعالى: (وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً) (البقرة: 30)، قال ابن كثير في تفسيره لهذه الآية: وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليفة ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه، فهو يقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم، ويقيم الحدود ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا يمكن إقامتها إلا بالإمام، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب(3).
– وقوله تعالى: (يَا دَاوُدُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى) (ص: 26)، فقوله تعالى: (احْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ) بعد قوله: (إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً) دليل على أن المراد بالخليفة هو الحاكم الذي يحكم بين الناس، وقد قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: هذه وصية من الله عز وجل لولاة الأمور أن يحكموا بين الناس بالحق المنـزل من عنده تبارك وتعالى، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله، وهذا يعني أيضاً أن المراد بالخليفة هو ولي الأمر أو الحاكم الذي يحكم بين الناس(4).
– وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ ۚ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا) (النساء: 105).
– وقوله تعالى: (وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَٰلِكَ ۚ وَمَا أُولَٰئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ) (المائدة: 43).
– وقوله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ ۚ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ ۚ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ) (المائدة: 44).
– وقوله تعالى: (وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ ۚ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (المائدة: 45).
– وقوله تعالى: (وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ ۚ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ) (المائدة: 47).
– وقوله تعالى: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ ۖ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ ۖ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ) (المائدة: 48).
– وقوله تعالى: (وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ) (المائدة: 49).
ثانياً: السُنَّة النبوية:
أما الأحاديث فجاءت منها طائفة كثيرة، منها:
– قوله صلى الله عليه وسلم: «كَانَتْ بَنُو إسْرَائِيلَ تَسُوسُهُمُ الأنْبِيَاءُ، كُلَّما هَلَكَ نَبِيٌّ خَلَفَهُ نَبِيٌّ، وإنَّه لا نَبِيَّ بَعْدِي، وَسَتَكُونُ خُلَفَاءُ فَتَكْثُرُ، قالوا: فَما تَأْمُرُنَا؟ قالَ: فُوا ببَيْعَةِ الأوَّلِ، فَالأوَّلِ، وَأَعْطُوهُمْ حَقَّهُمْ، فإنَّ اللَّهَ سَائِلُهُمْ عَمَّا اسْتَرْعَاهُمْ»(5)، ففي هذا الحديث أن سياسة أمر الناس كانت في بني إسرائيل منوطة بالأنبياء، وأما في شريعتنا فإن سياسة أمر الناس بعد الرسول صلى الله عليه وسلم منوطة بالخليفة؛ إذ لا نبي بعد الرسول صلى الله عليه وسلم.
– وقد كثر في السُنَّة استعمال لفظ «خليفة» للقائم على رأس الدولة الإسلامية، كقوله صلى الله عليه وسلم: «عليكم بسُنَّتي وسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدِين المهدِيِّينَ مِن بعدي»(6).
– وقوله صلى الله عليه وسلم: «إذا بُويِعَ لِخَلِيفَتَيْنِ، فاقْتُلُوا الآخِرَ منهما»(7).
– وقوله صلى الله عليه وسلم: «لا يَزَالُ الدِّينُ قَائِمًا حتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ، أَوْ يَكونَ عَلَيْكُمُ اثْنَا عَشَرَ خَلِيفَةً، كُلُّهُمْ مِن قُرَيْشٍ»(8).
– وقوله صلى الله عليه وسلم: «يَكونُ في آخِرِ الزَّمانِ خَلِيفَةٌ يَقْسِمُ المالَ ولا يَعُدُّهُ»(9).
وقد ورد كذلك لفظ «إمام» ليدل على ما دل عليه لفظ «خليفة»، ومن ذلك:
– قوله صلى الله عليه وسلم: «وَمَن بَايَعَ إمَامًا فأعْطَاهُ صَفْقَةَ يَدِهِ، وَثَمَرَةَ قَلْبِهِ؛ فَلْيُطِعْهُ إنِ اسْتَطَاعَ، فإنْ جَاءَ آخَرُ يُنَازِعُهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَ الآخَرِ»(10).
– وقوله صلى الله عليه وسلم: «وإنَّما الإمَامُ جُنَّةٌ يُقَاتَلُ مِن ورَائِهِ ويُتَّقَى به، فإنْ أمَرَ بتَقْوَى اللَّهِ وعَدَلَ، فإنَّ له بذلكَ أجْرًا وإنْ قالَ بغَيْرِهِ فإنَّ عليه منه»(11).
وإذا كانت هذه النصوص قد تناولت اسم القائم على نظام الحكم في الإسلام، فإن نصوصاً أخرى قد حددت اسم النظام وشكله، منها:
– قوله صلى الله عليه وسلم: «خلافةُ النبوةِ ثلاثونَ سنةً، ثم يؤتي اللهُ الملكَ، أو ملكَه، من يشاءُ»(12).
– وقوله صلى الله عليه وسلم: «تكونُ النُّبُوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ خلافةٌ على مِنهاجِ النُّبُوَّةِ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ مُلْكًا عاضًّا، فتكونُ ما شاء اللهُ أن تكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ مُلْكًا جَبْرِيَّةً فيكونُ ما شاء اللهُ أن يكونَ، ثم يَرْفَعُها اللهُ تعالى، ثم تكونُ خلافةً على مِنهاجِ نُبُوَّةٍ، ثم سكت»(13).
هذه بعض النصوص التي تتحدث عن النظام السياسي في الإسلام، وتجعل له خصائصه المميزة، وتحدد له مفرداته ومصطلحاته الخاصة به على المستوى النظري، أما على مستوى الواقع العملي؛ فهذا ما سنعرضه، إن شاء الله تعالى، في المقال القادم.
_________________________
(1) الحق المر، محمد الغزالي، (3/ 18).
(2) مختارات من آثار علي عبدالرازق، حسام أحمد عبدالرازق (محررًا)، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ص75.
(3) تفسير ابن كثير، (1/ 216).
(4) تفسير ابن كثير، (7/ 62)، المكتبة الشاملة.
(5) أخرجه مسلم (1842)، حديث صحيح.
(6) الفتح الرباني (5/ 2177)، حديث صحيح.
(7) صحيح مسلم (1853)، حديث صحيح.
(8) رواه مسلم في صحيحه (1822).
(9) رواه مسلم في صحيحه (2913).
(10) رواه مسلم في صحيحه (1844).
(11) رواه البخاري (2957).
(12) صحيح أبي داود (4646)، قال الألباني: حسن صحيح.
(13) هداية الرواة (5306)، قال الألباني: إسناده حسن.