كانوا يلقبونها بـ«أم سربرنيتسا»، فهي لطالما كافحت من أجل العدالة، وأمهات سربرنيتسا اللاتي فقدن عائلاتهن، ولأجل إعادة ولو بعض الحقوق لعائلات الضحايا والمهجرين قسراً، الأم خديجة محمدوفيتش التي فقدت زوجها وولديها الاثنين في مجزرة سربرنيتسا.
اشتهرت بكلمتها التي كثيراً ما كانت ترددها في كل فعالية وأمام الحشود: «لا أسعى إلى الانتقام، ولا أنشر الكراهية، ولا أتمنى أن يشعر أي إنسان بما أشعر به؛ ما أسعى إليه هو العدالة، إذا انتصر عليَّ مرض السرطان أعطوني وعداً أن تظلوا تذكرون أبنائي وأن تحكوا قصتهم للجميع، وأن تقولوا حقيقة ما جرى في سربرنيتسا».
"سربرنيتسا" البوسنية تودع أمها المناضلة "خديجة محمدوفيتش" https://t.co/syb43KIcGK pic.twitter.com/tXWOsXiBhA
— Anadolu العربية (@aa_arabic) July 25, 2018
توفيت الأم خديجة محمدوفيتش، في يوليو 2018م، بعد أن أنهكها الوجع وألم السرطان، لكن قصة معاناتها امتدت طويلاً قبل وفاتها بين البحث عن رفات عائلتها التي غابت طويلاً تائهة تحت التراب، وألم السرطان.
Today, a Center for the elderly has been opened in Potocari, #Srebrenica, which will be named after our mother Hatidža Mehmedović.
I congratulate the NGO "MFS – Emmaus" and may the dear God reward all the donors.#october2022 pic.twitter.com/QBLTkr1b0a
— Ahmed E. Hrustanović (@E71HRG) October 23, 2022
في فيلم وثائقي بعنوان «ضباب سربرنيتسا»، تروي الأم خديجة قصتها فتقول: كلما شاهدت عصفورة تجلب الغذاء لصغارها، وكيف تحميها وتعتني بها، أقول لها: «أنتِ أُم أفضل مني»، كانت العصفورة تحمي صغارها بينما أنا لم أستطع أن أحمي صغاري، لست أنا فقط، هناك الآلاف من الأمهات مثلي.
تعود للوراء وتحكي كيف بدأت الأحداث في سربرنيتسا، وتعابير وجهها تنبئك بكمّ الوجع وكأن صوت أنينها مرسوم بين تلك الكلمات: في عام 1992م بدؤوا الحديث عن بداية الحرب، لم نتمكن من فهم ما يعنيه ذلك، فبتذكر ما حدث في الحرب العالمية الثانية كنا نظن أن الناس كانوا همجيين في ذلك الوقت، وأن الحضارة تقدمت الآن، وأننا نفهم بعضنا بعضاً.
خديجة محمدوفيتش
فقدت زوجها وأبناءها الـ2 في سربرنيتسا 11 يوليو 1995 توفيت بالسرطان يوليو 2018 كانت تقول "أنا لا أنشر الكراهية أنا فقط أسعى للعدالة إذا انتصر عليّ السرطان أعطوني وعداً أن تظلوا تذكرون أبنائي وأن تحكوا قصتهم للجميع وأن تقولوا حقيقة ما جرى في سربرنيتسا#Srebrenica pic.twitter.com/NJw94WkFhh— Mohamed Sarhan (@sarhan3mo) July 12, 2023
في 17 أبريل 1992م، كان يوم الجمعة، لن أنسى ذلك أبداً، لم يرغب الصرب في إخبارنا بما يحدث، رغم أن الكثيرين منهم كانوا أصدقاءنا، لاحظنا أن أطفال المسلمين فقط هم من لا يزالون يذهبون إلى المدارس، بينما توقف أطفال الصرب عن الذهاب، كنا نظن أن الحرب لن تصل سربرنيتسا، لكن بعدها اضطررنا لمغادرة وطننا هرباً من الحرب، دخلت قوات الصرب سربرنيتسا وبدأت عمليات القتل.
ونحن لم يكن لدينا سلاح، لم يكن البوشناق «المسلمون» والكروات مسلحين، لو كانت لدينا أسلحة للدفاع عن أنفسنا لم تكن المجزرة لتحدث.
في هذه الحال يصعب عليك أن تحكي كيف كانت معاناتنا دون غذاء أو أدوية، وكيف كان الجرحى يعانون ويقاومون الألم، أتذكر أنه كان عليهم أن يبتروا ساق أحد المصابين، كانوا يقصونها بمنشار، وكان صوت صراخه يملأ الأرجاء!
في يوليو، بدأ القصف العنيف، وفي يوم 9 من ذات الشهر قال لي ابني الأكبر: الوضع لن يكون جيداً، علينا مغادرة سربرنيتسا، وفي اليوم التالي قال: أمي، إذا سمعتِ أن قوات دفاعنا انهارت؛ يجب أن تذهبي أنت وأبي إلى مجمع الأمم المتحدة برفقة أخي كي يبقى هو على قيد الحياة على الأقل.
مؤلم أننا تعرضنا للإيذاء فقط بسبب أسمائنا الإسلامية.
We would like to remember and honor the mothers of #Srebrenica and in particular Hatidža Mehmedović, who passed away in 2018. Hatidža was a beacon of light who fought bravely for peace and justice. We will never forget Hatidža's legacy or her family's pain. pic.twitter.com/b0mAdvBhcb
— Bosnian History (@BosnianHistory) July 10, 2020
عندما حان وقت انفصال المحاصرين في سربرنيتسا، ففريق كان سيذهب إلى الغابات، والفريق الآخر سيذهب إلى قاعدة بوتوتشاري حيث القوات الأممية، طلب مني ابني الأكبر الذهاب معهم عبر الغابات، بينما رفض الأصغر أن أذهب معهم لأنني سأتعب، كان يحيطني بذراعيه بقوة وبشكل كامل، وعندما حان وقت الانفصال دفعني بعيداً وقال: رجاء اذهبي لا أريد أن أنظر.
هنا في هذه اللحظة افترقت عائلات كثيرة، وكان الجميع يصرخ بصوت عال، وللأسف هؤلاء لم ير بعضهم بعضاً مرة أخرى.
عندما وصلت إلى بوتوتشاري رأيت أجيالاً مختلفة، فحمدت الله تعالى أن أبنائي لم يأتوا إلى هنا، لكني في الوقت نفسه كنت قلقة أنهم سيتعبون خلال رحلة الهروب في الغابات، ويشعرون بالجوع والعطش، كان ذلك قلقي الوحيد، لم أعلم أو أتخيل ماذا سيحصل لهم! لو كنت أعلم لما انفصلت عنهم.
طوال سنوات لا تمر عليّ ثانية دون أن أفكر في أولادي وزوجي، كيف حالهم يا ترى! وعندما تمطر كنت أقول: هل ابتلت ملابسهم؟ وعندما تثلج أسأل نفسي: هل يشعرون بالبرد؟!
لم أنجبه بلا رأس
خديجة محمدوفيتش "فقدت زوجها وولديها"تقول: سألت هل الجسد سليم؟ أجابوا: إنه ليس كاملا وجدنا عظمتين من الساقين، قلت: لن أدفنه لم أنجبه بلا رأس، قالوا نأسف: إن القبور كانت مدمرة ويستحيل إيجاد بقايا أخرى #Srebrenica #Srebrenica25 #سربرنيتسا pic.twitter.com/g2KF2e07pc— Mohamed Sarhan (@sarhan3mo) July 12, 2020
تخيل كل هذا الألم بقي لسنوات طويلة منذ وقوع المذبحة في يوليو 1995، حتى 13 نوفمبر 2007م، عندما اتصلوا بي وأخبروني أنهم وجدوا أحد أطفالي.
سألتهم: هل يمكنكم أن تخبروني وجدتم أي واحد منهم؟
قالوا: لا نعرف.
عندها شعرت أن شيئاً علق في حلقي، وفي 10 مايو 2010م؛ أي بعد 3 سنوات أخرى، اتصلوا مجدداً وقالوا: وجدنا طفلك الثاني.
سألتهم: هل يمكن أن تعرفوا أياً منهم هذا؟
قالوا: هذا غالباً ابنك الأكبر؛ لأنك وصفتِ لنا بنطاله.
سألت: هل الجسد سليم؟
قالوا: إنه ليس كاملاً، وجدنا فقط عظمتين من الساقين.
قلت: لن أدفنه، لم أنجبه هكذا، لم أنجبه بلا رأس.
قالوا: نأسف، إن القبور كانت مدمرة ويستحيل إيجاد بقايا أخرى.
في عام 2010م، كان عليَّ دفن رفات طفليّ الاثنين وزوجي.
إنه أمر مؤلم، البشر فعلاً أسوأ من الحيوانات، فعلوا كل ذلك ليدمرونا، وأن لا شيء قد حدث، وكأنه لم يكن لدينا أطفال، ورغم كل هذا حينها اعتبرني الصرب امرأة خطيرة، فجاء أمر من محكمة بلينا باعتقالي، فأنا امرأة خطيرة بالنسبة لهم لأنهم قتلوا عائلتي بأكملها.
نحن نحرص على أن نزور كل مناطق القتل الجماعي، فضحايا القتل حتى وإن لم يعطوهم حقهم في العيش، فمن حقهم أن نزورهم.
توفيت الأم خديجة محمدوفيتش، في يوليو 2018م، لكن بقية أمهات سربرنيتسا يواصلن مسيرة النضال من أجل الضحايا ومن أجل ألا ينسى العالم ما حدث في سربرنيتسا، وكيف كان يتم قتل المسلمين البوشناق، ولأجل أن تستقر رفات كل الضحايا في مقابر معروفة يمكن زيارتها لتتوارث الأجيال حكاية يوم أن غابت الإنسانية ها هنا.