استوقفني، كما استوقف الكثيرين، البيان الذي أصدره الليبراليون العرب على صورة رسالة مفتوحة موجهة إلى مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة للمطالبة بتشكيل محكمة دولية من قبل الأمم المتحدة لمحاكمة الإرهابيين وفقهاء الإرهاب الذين يقدمون للإرهابيين فتاوى دينية تشجعهم على الإرهاب.
وفقهاء الإرهاب، وفق منطوق البيان، هم علماء المسلمين حصراً؛ من أمثال الشيخ سفر الحوالي، ود. يوسف القرضاوي، والشيخ راشد الغنوشي، وجريمة هؤلاء أنهم يجيزون قتل “الإسرائيليين” في فلسطين دون تفريق بين مدني وعسكري، وفق الاستشهادات المجتزأة والمعزولة عن سياقاتها -التي استخدمها موقعو البيان- كقرائن على استحقاق هؤلاء العلماء المسلمين المحاكمة أمام محكمة دولية.
كما استوقفني أن موقعي البيان الأممي يحددون أسباب الإرهاب بتلك الفتاوى وبعوامل عديدة هي قنبلة الانفجار السكاني ونتائجها من أمية وفقر وبطالة واستبداد سياسي وتخلف في مناهج التعليم وظلامية التعليم الديني.. إلخ، فهي أسباب ذاتية نابعة من داخل المجتمعات العربية الإسلامية، فليس للاستغلال الاستعماري للعالم العربي، أو للاحتلال الصهيوني، أو للغزو العسكري الأمريكي للعراق علاقة مباشرة أو غير مباشرة بما يسميه موقعو البيان بالإرهاب.
استوقفني بعد ذلك أن صفحة الردود على البيان عبر الإنترنت قد تضمنت ردوداً عديدة داعمة ومشجعة لفحوى البيان وموقعيه، وجلها من أشخاص أوروبيين وأمريكيين لم يطلعوا على البيان الأممي باللغة العربية، بل إنهم يشيرون في ردودهم إلى أنهم قد اطلعوا على هذا البيان من خلال موقع “دانييل بايبس” الذي نشر مقالة لتأييد البيان وحض زملاءه في الرابطة الصهيونية الأمريكية “رابطة منع التشهير اليهودية” بتعميمه على أوسع نطاق.
و”دانييل بايبس” من رموز المحافظين الجدد في الولايات المتحدة وأكثرهم تأثيراً في الإدارة الأمريكية، وأشدهم عداء للعرب والمسلمين، وهو أحد أعضاء اللجنة التي ترأسها ابنة نائب الرئيس “تشيني” والمكلفة بنشر الديمقراطية ودعم الاتجاهات الإصلاحية والليبرالية في العالم العربي التي انفقت حتى اليوم عشرات الملايين من الدولات لدعم من يدعونهم “الإصلاحيين والليبراليين العرب”.
بالطبع كان يمكن لصدمتنا بالبيان الأممي أن تكون أقل، لو أن موقعيه تجرؤوا على أن يضمنوا قائمتهم حول الإرهاب الدولي أسماء مثل القس “جيري فالويل”، الذي يبث منذ ربع قرن عبر محطته التلفزيونية تراتيل الكراهية والحض على إزالة الإسلام عن خريطة الحضارة الإنسانية، ولم ينقطع يوماً عن التبشير بمعركة “هرمجدون” التي سيباد فيها ملايين المسلمين تمهيداً لقدوم السيد المسيح.
كان يمكن للموقعين على البيان الأممي أن يقنعوا بعض الناس بصدق دعواهم لو أنهم أشاروا ولو من بعيد إلى أن 120 ألف مدني عراقي قتلوا على أيدي الجيش الأمريكي منذ بداية الغزو الأمريكي للعراق، وكان يمكن لليبراليين العرب أن يدعوا حسن النية والطوية لو أنهم تطرقوا ولو تلميحاً إلى ظلم الشعب الفلسطيني تحت الاحتلال الصهيوني العنصري منذ عقود، أو ملايين اللاجئين الفلسطينيين المنفيين عن وطنهم بقوة الإرهاب الصهيوني.
لم يذكر هؤلاء الليبراليون العرب عندما أبدوا حرصهم وغيرتهم على الأجنة “الإسرائيليين” أنه لم يقتل جنين يهودي واحد بفعل المقاومة الفلسطينية التي يدرجونها ضمن توصيفهم للإرهاب، بينما قتلت عشرات النساء الفلسطينيات الحوامل، وماتت العشرات منهن مع أجنتهن على حواجز الموت الصهيونية التي منعت وصولهن إلى المستشفيات في الضفة الغربية.
المثقفون العرب المسلمون الديمقراطيون المسالمون الليبراليون، كما يصفون أنفسهم، لم يضمنوا بيانهم الأممي استشهاداً واحداً من فتاوى الحاخامات اليهود التي تحض يومياً على قتل الفلسطينيين والعرب باعتباره واجباً دينياً.
لعلهم لم يطلعوا على فتوى الراب “يسرائيل هيس”، التي نشرها في مقالة بعنوان “شريعة القتال في التوراة”، التي قال فيها بالنص: “ينبغي ألا تكون هناك رحمة في الأمر السماوي الذي يأمر بقتل الكبار والصغار من الفلسطينيين الذين هم من نسل عماليق”، والذي بشر فيه: “سوف يقترب اليوم الذي ندعو فيه جميعاً لشن الحرب المقدسة من أجل إبادة العماليق”.
ولعل الليبراليين لم يطلعوا، في حمى البحث عن فقهاء إرهاب إسلاميين، على فتوى الحاخام “إبراهام فيدان” عشية حرب عام 1973م لجنود الجيش “الإسرائيلي”: “مصرح لكم، وفق الشريعة، أن تقتلوا المدنيين الطيبين، أو بمعنى أصح، الذين يبدون طيبين”، التي استشهد فيها بالآية من سفر يوشع بن نون التي تقول: “يجب عليك أن تقتل أفضل الأغيار”.
وربما فات الليبراليين العرب، أو لعله خارج اختصاصهم، أن يتطرقوا إلى فتاوى الحاخام العسكري للكيان الصهيوني “موشيه غورن” الذي وصف كل الاعتداءات الصهيونية على الفلسطينيين والعرب بأنها حروب مقدسة.
كل الجرائم التي ارتكبها الصهاينة بما فيها المذابح الجماعية بحق الفلسطينيين والعرب، وقتل آلاف الأسرى المصريين في سيناء تمت بالمطابقة مع فتاوى حاخامات يهود، وجاء معظمها نتاجاً مباشراً لتلك الفتاوى، وكان آخرها فتوى الحاخام اليهودي في الضفة الغربية “إبراهام كولن” الذي أفتى في مستعمرة أرئيل للمستوطنين في موسم قطاف الزيتون منذ أسابيع: “دماء الأغيار وغرس أيديهم حلال لكم وفق الشريعة”.
بالطبع لا يمكن أن نتهم الليبراليين العرب “المثقفين” بأنهم لم يطلعوا على المئات من فتاوى الحض على القتل والطرد والسلب التي أصدرها مئات الحاخامات اليهود بحق العرب والمسلمين، ويبدو أن السبب الذي حال دون التطرق لهذه الفتاوى اليهودية في البيان الأممي لليبراليين العرب أن الغرب وخاصة السيد “دانييل بايبس” وأمثاله سوف يوقفون عند ذلك صفة الليبرالية عن “الليبراليين العرب”، وهي صفة يحرصون عليها –على ما يبدو– أكثر من حرصهم على أي قضية من قضايا الأمة.
ما زلنا نأمل أن يكون البيان الأممي لليبراليين العرب مجرد زلة لسان أو قلم أو قدم، وألا يكون إعلاناً مدفوع الثمن من قبل السيد “بايبس”، عضو اللجنة الأمريكية لدعم وتمويل الإصلاحيين والليبراليين العرب، فالمشكلة الجوهرية هي مع المايسترو وليست معهم.
______________________
العدد (1658)، 25 جمادى الأولى 1426ه / 2 يوليو 2005م، ص27