في زيارتي لقبر أرطغرل لفت نظري سيدة عجوز نحيفة قصيرة منحنية الظهر تلبس لباسا أسود اللون من زي أهل ريف تركيا، يغطي جسدها من منبت الشعر لأسفل القدمين، يبدو أنها آتية من مكان بعيد مع صُحبةٍ من أقاربها. دخلت مستندة على ذراع إحدى صويحباتها، ثم انفردت عنهن وأسندت ظهرها إلى جلسة شباك في مواجهة رأس القبر المكسو بقماش أخضر يزينه نسيج من زخرفة نباتية ذهبية اللون، درفة الشباك الداخلية من الحديد الأسود بها ثقوب، وبجوارها لوحة معدنية ذهبية تفيد بأن هذه الثقوب آثار لطلقات نارية أطلقها الجنود اليونانيون في أثناء احتلال اليونان بمساعدة الحلفاء في الحرب العالمية الأولى لولاية “بليچيك” العاصمة التاريخية الأولى لقبيلة “أرطغرل”، والتي انتقل منها الغازي “عثمان” لتأسيس أول عاصمة للإمبراطورية العثمانية في مدينة “بورصة”، أطلق الجنود اليونانيون تلك الرصاصات في إجراء انتقامي شبيه بوقفة القائد الإنجليزي “اللمبي” على قبر “صلاح الدين” بعد احتلالهم للقدس.
وقفت السيدة وحدها في خشوع، وظلت رافعة يديها بالدعاء بصوت مسموع ودموع منهمرة، ولما أطالت الوقوف نَبَّهَتها إحدى صويحباتها برغبتهن في الانصراف، فاضطرت لقطع دعائها، وختمت بقراءة الفاتحة، ثم اتكأت على ذراع صاحبتها منصرفة في هدوء.
هذا المشهد سيطر على ذهني بشكل كبير، وأثار الأفكار في عقلي؛ فما الذي جعل هذه السيدة القروية البسيطة تنفعل كل هذا الانفعال بتلك الشخصية التاريخية؟!
ويزيد من مشروعية هذا السؤال وما يحمله من تعجب أن هذه السيدة بحكم التاريخ المعاصر لعمرها، تعلمت في المدارس ومن خلال وسائل الإعلام والدعاية.. أن تاريخ بلادها يبدأ من تكوين تركيا الحديثة، وبانيها “مصطفى كمال أتاتورك” (أبو الأتراك)، وفي كل عام تحتفل مع عموم الشعب بذكرى تأسيس الجمهورية التركية على أنقاض الإمبراطورية العثمانية، وأن الإمبراطورية العثمانية مضى زمنها ومضى معه زمن التخلف عن ركب الحضارة، وأن العقول التركية خلعت أفكارها الشرقية (المتخلفة)، وتلبست بالأفكار الغربية (التقدمية)، بمجرد خلع النساء لحجابهن، وتبديل الطربوش بالقبعة لرؤوس الرجال.
عجيب أمر التاريخ، وعجيبة تلك الخلطة التي تشكل هوية الإنسان؛ فالتاريخ لا يزول، التاريخ يظل بذورا مخفية في باطن الأرض، قد لا يراها الناس لسنين وقرون، تنتظر من يحرث تربتها، ويعيد لها الحياة والنماء، ويظل تاريخ الأجداد جزءا من تشكيل هوية الإنسان.
هذه السيدة في عمرها المديد تسلقت فروعا من تاريخ مصطنع بعيد عن جذورها، وغريب عن أصولها، وما إنْ تهيأت الظروف لوجود من يحرث تربة تاريخها، وينفض الغبار الذي علا جذورها، ويعيد الحياة والنماء للبذور المدفونة تحت ركام الزيف؛ شعرت بأنها وجدت نفسها بعد تيه، فوقفت بكل هذا الخشوع أمام بذرة من بذور تاريخها التي أعادت معها اكتشاف ذاتها.
هذه البلدة الصغيرة “سوغوت” التي تحتضن قبر أرطغرل كانت بداية صناعة تاريخ جديد من تحت أنقاض الموت والخراب والدمار؛ فقد هاجر أرطغرل بعشيرته المنحدرة من قبائل الأوغور من موطنهم في شمال الصين، هربا من هجمات المغول الذين أحرقوا الأخضر واليابس أينما حلوا، وتحالف مع دولة السلاجقة، ونزلوا هذه الأرض التي كانت إحدى نقاط التماس بين العالم الإسلامي والدولة البيزنطية.
كانت نقطة التماس هذه التقاء بين بذرتين من بذور التاريخ؛ بذرة انتقلت من مكة لتصنع هذا العالم الإسلامي الفسيح الذي امتد من الصين حيث قبائل الأوغور وحتى الأندلس، وبذرة انتقلت من القدس لتصنع هذا العالم المسيحي الذي امتد مع امتداد الإمبراطورية الرومانية.
كان العالم الإسلامي في هذا الزمان يترنح تحت ضربات المغول، حتى ظن مسلمو ذاك الزمان أنها نهاية الإسلام ونهاية العالم، ولكن الله الذي يُخرج الحي من الميت، أعاد حياة العالم الإسلامي من هذه النقطة البعيدة التي لم تكن تخطر على بال مسلمي ذاك الزمان.
فمن أقصى شرق العالم الإسلامي انتقلت عشيرة أرطغرل إلى هذه البلدة الصغيرة، ومنها تم صناعة تاريخ جديد، أعاد الحياة للعالم الإسلامي وأزال الدولة البيزنطية وأحتل عاصمتها “القسطنطينية” وامتدت فتوحه حتى مشارف “فيينا“.
إن التاريخ نهر جارٍ بلا توقف، ومخطئ من يظن أنه يعبر النهر مرتين؛ ففي كل مرة تعبر فيها النهر ومن النقطة ذاتها تتجدد المياه المستمرة في جريانها، مخطئ من يتجمد فكره عند اللحظة الراهنة، وينسى أن لحظته قطرة ستتبدل في مجرى نهر التاريخ، إنها دورة الحياة التي لا تتوقف، دورةٌ يصنعها الموت والحياة متلازمين.
مع كل لحظة تموت في أجسادنا خلايا ليحيا غيرها، وتسقط شعرات لتنبت غيرها، ومع كل نوم موت ومع كل يقظة حياة جديدة، ومع كل أمل ضائع أمل يتجدد، ومكان كل عاطفة تخبو عاطفة تتوقد..
إن الموت هو صانع حياة جديدة لا يدركها من تستغرقه لحظة الموت، وصانع الكون جعل الموت والحياة متلازمين في صناعة دورة الحياة: {يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ۚ وَكَذَٰلِكَ تُخْرَجُونَ} (الروم: 19).
خرجت من المقبرة ذات البناء الحجري المسدس الأضلاع والمسقوف بقُبَّة واحدة، والمزينة جدرانها وقبتها بزخارف نباتية متقنة، وتوجهت للبوابة التي يقف على جانبيها حارسان فتيان يلبسان الزي العسكري العثماني، وتلقفت حذائي الذي خلعته مع دخولي، وأكملت جولتي في الساحة المحيطة بالمقبرة والتي تحتوي على عدة قبور لعائلة أرطغرل ورفاق كفاحه، وقرأت جزءا من وصيته المحفورة على لوح رخامي أسود، والتي يوصي فيها ابنه “عثمان” بطاعة شيخه ومعلمه، العالم الزاهد الذي تعلم الفقه الحنفي علي علماء دمشق وعاد إلى قبيلته معلما، “أديب علي – آداه بالي”، والذي كان مدده الروحي لا يقل أهمية عن عبقرية أرطغرل في بناء الدولة الفتية، وخرجتُ من السور عبر بوابة يعلوها قوس حجري، وشربت من السبيل الملاصق للسور، والذي بناه السلطان عبد الحميد مع ترميمه للقبر، وانصرفت حاملا معي إلهامات الزيارة، التي نظمتها في هذه السطور.