قال تعالى: ﴿وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الحجرات: 9 – 10].
هذا هو المنهج القرآني في معالجة الخلاف والاقتتال والتنازع بين فئتين مسلمتين، وهو خطاب ربّاني للمسلمين في كلّ زمان ومكان، فالإخوّة بين المؤمنين في الإيمان والتقوى وطاعة الله والخوف منه، والتزام العدل والحق، والإسلام سوّى بين الجميع، فلا تفاضل بينهم ولا فوارق، ولعلكم ترحمون بسبب التقوى؛ وهي التزام الأوامر واجتناب النواهي. (التفسير المنير، وهبة الزحيلي، 26/239).
وقد جعلت الآية الكريمة: الإصلاح بين الإخوة وتقوى الله سبب نزول رحمة الله، تعظيماً لأمر الإصلاح بين المسلمين. (منهج القرآن الكريم في إصلاح النفوس، الحريري، ص 16).
وللتذكير بما قاله رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي عن حقيقة معركة صفين وقضية التحكيم بين الجيشين، وقال:
“جيش الإمام علي كله قال للإمام: هذا دعاك للقرآن، قال لهم: أنا القرآن الناطق وهذا القرآن صامت، هذه خدعة، قالوا له: دعاك إلى القرآن، وسلّوا سيوفهم على رأس الإمام علي”.
وفي قوله: “20 ألف مقاتل شهّر سيفه لقتال الإمام علي إن لم ينزل على حكم القرآن على هذه الخديعة، بعث إلى مالك الأشتر: ارجع، قال لهم: ليمهلني قليلاً وصلت إلى فسطاط معاوية، ساعة واحدة وأحسم المعركة، عادوا وقالوا: مالك يرفض، قال لهم: قولوا له إمامك سيقتل، مالك ارتعب، ماذا! الإمام علي يقتل! وعنده هذا الجيش الجرار، استدار بحصانه وعاد ليجد السيوف المسلولة على رأس الإمام، طلب من الإمام أن يعطيه الإذن ليجمع هؤلاء على هؤلاء، قال له: لقد نفذت المؤامرة، اخضع”.
وهذا أوجب توضيح حقيقة الدعوة إلى التحكيم ومساراتها في تلك الفترة بعيداً عن القيل والقال، واستناداً للروايات التاريخية الكثيرة التي تناولت تلك المرحلة. فما حقيقة التحكيم والدعوة إليه؟
1- الدّعوة إلى التحكيم:
إنّ ما وصل إليه حال الجيشين في معركة صفين لم يكن يحتمل مزيداً من القتال، وجاءت خطبة الأشعث بن قيس زعيم كندة ليلة الهرير فقال: قد رأيتم يا معشر المسلمين ما قد كان في يومكم هذا الماضي، وما قد فني فيه من العرب، فوالله لقد بلغتُ من السن ما شاء الله أن أبلغ؛ فما رأيت مثل هذا قط، ألا فليبلغ الشاهد الغائب، إنْ نحن تواقفنا غداً إنه لفناء العرب، وضيعة الحرمات، أما والله ما أقول هذه المقالة جزعاً من الحرب، ولكني رجل مسن، وأخاف على النساء والذراري غداً إذا نحن فنينا، اللهم إنك تعلم أني قد نظرت لقومي ولأهل ديني فلم آل. (وقعة صفين، لمتغري ، ص 479).
وجاء خبر ذلك إلى معاوية فقال: أصاب ورب الكعبة، لئن نحن التقينا غداً لتميلن الروم على ذرارينا ونسائنا، ولتميلن أهل فارس على أهل العراق وذراريهم، وإنما يبصر هذا ذوو الأحلام والنهى، ثم قال لأصحابه: اربطوا المصاحف على أطراف القنا، وهذه رواية عراقية لا ذكر فيها لعمرو بن العاص (رضي الله عنه) ولا للمخادعة والاحتيال، وإنما كانت رغبة كلا الفريقين، ولن يضير معاوية أو عمرو بشيء أن تأتي أحدهم الشجاعة فيبادر بذلك وينقذ ما تبقى من قوى الأمة المتصارعة.
إنما يزعج ذلك السبئيّة الذين أشعلوا نيران هذه الفتنة، وتركوا لنا ركاماً من الروايات المضللة بشأنها، تحيل الحق باطلاً، وتجعل الفضل كالمناداة لتحكيم القرآن لصون الدماء المسلمة؛ جريمة ومؤامرة وحيلة، ونسبوا لأمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) أقوالاً مكذوبة تعارض ما في الصحيح على أنه قال: ما رفعوها ثم لا يرفعونها، ولا يعملون بما فيها، وما رفعوها لكم إلا خديعة ودهناً ومكيدة. (الكامل في التاريخ، ابن الأثير، 2/386).
ومن الشتائم قولهم عن رفع المصاحف: إنها مشورة ابن العاهرة، ووسّعوا دائرة الدعاية المضادة على عمرو بن العاص (رضي الله عنه)، حتى لم تعد تجد كتاباً من كتب التاريخ إلا فيه انتقاص لعمرو بن العاص (رضي الله عنه)، وأنه مخادع وماكر بسبب الروايات الموضوعة التي لفّقها أعداء الصحابة الكرام، ونقلها الطبري، وابن الأثير وغيرهم، فوقع فيها كثير من المؤرخين المعاصرين مثل: حسن إبراهيم حسن في تاريخ الإسلام، ومحمد الخضري بك في تاريخ الدولة الأموية، وعبد الوهاب النجار في تاريخ الخلفاء الراشدين، وغيرهم كثير، مما ساهم في تشويه الحقائق التاريخية الناصعة. (تاريخ الطبري، 5/662).
إنَّ رواية أبي مخنف تفترض أنّ علياً (رضي الله عنه) رفض تحكيم القرآن لما اقترحه أهل الشام، ثم استجاب بعد ذلك له تحت ضغط القرّاء الذين عرفوا بالخوارج فيما بعد، وهذه الرواية تحمل سبّاً من علي لمعاوية (رضي الله عنهما) وصحبه؛ يتنزّه عنه أهل ذاك الجيل المبارك، فكيف بساداتهم وعلى رأسهم أمير المؤمنين علي؟! (رضي الله عنه) ويكفي للرواية سقوطاً أن فيها أبا مخنف الرافضي المحترق، فهي رواية لا تصمد للبحث النزيه، ولا تقف أمام روايات أخرى لا يتّهم أصحابها بهوى، مثل ما يرويه الإمام أحمد بن حنبل عن طريق حبيب بن أبي ثابت قال: أتيت أبا وائل أحد رجال علي بن أبي طالب (رضي الله عنه). فقال: كنا بصفين، فلما استحرَّ القتل بأهل الشام قال عمرو لمعاوية (رضي الله عنهما): أرسل إلى علي المصحف؛ فادعه إلى كتاب الله، فإنه لا يأبى عليك، فجاء به رجل فقال: بيننا وبينكم كتاب الله: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ [آل عمران: 23]. فقال علي (رضي الله عنه): نعم، أنا أولى بذلك، فقام القُراء الذين صاروا بعد ذلك خوارج، بأسيافهم على عواتقهم، فقالوا: يا أمير المؤمنين ألا نمشي إلى هؤلاء حتى يحكم الله بيننا وبينهم؟ فقام سهل بن حنيف الأنصاري رضي الله عنه فقال: أيها الناس اتهموا أنفسكم، لقد كنا مع رسول الله ﷺ يوم الحديبية، ولو نرى قتالاً لقاتلنا، وذلك في الصلح الذي بين رسول الله ﷺ وبين المشركين، ثم حدثهم عن معارضة عمر رضي الله عنه للصلح يوم الحديبية ونزول سورة الفتح على رسول الله ﷺ، فقال علي: أيها الناس! إن هذا فتح، فقبل القضية ورجع، ورجع الناس. (مسند أحمد مع الفتح الرباني، 8/483).
وفي هذه الروايات الصحيحة رد على دعاة الفتنة، ومبغضي الصحابة الذين يضعون الأخبار المكذوبة، ويضعون الأشعار وينسبونها إلى أعلام الصحابة والتابعين الذين شاركوا في صفين؛ ليظهروهم بمظهر المتحمِّس لتلك الحرب ليزرعوا البغضاء في النفوس ويعملوا ما في وسعهم على استمرار الفتنة. (الإنصاف فيما وقع في تاريخ العصر الراشدي من الخلاف، ص 530).
إنّ الدعوة إلى تحكيم كتاب الله دون التأكيد على تسليم قتلة عثمان إلى معاوية، وقبول التحكيم دون التأكيد على دخول معاوية في طاعة علي (رضي الله عنه) والبيعة له، تَطوُّر فرضته أحداث حرب صفين، إذ إنَّ الحرب التي أودت بحياة الكثير من المسلمين، أبرزت اتّجاهاً جماعيّاً رأى أنّ وقف القتال وحقن الدماء ضرورة تقتضيها حماية شوكة الأمة، وصيانة قوتها أمام عدوها، وهو دليل على حيوية الأمة ووعيها وأثرها في اتخاذ القرارات. (دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، ضيف الله، ص 38).
إنّ أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) قَبِلَ وقْفَ القتال في صفين، ورضي التحكيم، وعدَّ ذلك فتحاً، ورجع إلى الكوفة، وعلق على التحكيم آمالاً في إزالة الخلاف وجمع الكلمة، ووحدة الصف، وتقوية الدولة، وإعادة حركة الفتوح من جديد.
إنَّ وصول الطرفين إلى فكرة التحكيم، ساهمت بها وللاستجابة لها عدةُ عوامل؛ منها:
أ – أنه كان آخر محاولة من المحاولات التي بذلت لإيقاف الصدام وحقن الدماء؛ سواء تلك المحاولات الجماعية، أم المحاولات الفردية التي بدأت بعد موقعة الجمل ولم تفلح، أما الرسائل التي تبادلها الطرفان تفيد وجهات نظر كل منهما، فلم تُجد هي الأخرى شيئاً، وكان آخر تلك المحاولات ما قام به معاوية في أيام اشتداد القتال؛ حيث كتب إلى علي )رضي الله عنه) يطالبه بتوقف القتال، فقال: فإني أحسبك أن لو علمت وعلمنا أنّ الحرب تبلغ بك ما بلغت لم نجنها على أنفسنا، فإنا إن كنا قد غُلبنا على عقولنا فقد بقي منا ما ينبغي أن نندم على ما مضى ونصلح ما بقي. (دراسات في عهد النبوة، عبد الواحد، ص 432).
ب – تساقط القتلى وإراقة الدماء الغزيرة ومخافة الفناء، فصارت الدعوة إلى إيقاف الحرب مطلباً يرنو إليه الجميع.
ج – الملل الذي أصاب الناس من طول القتال، حتى وكأنهم على موعد لهذا الصوت الذي نادى بالهدنة والصلح، وكانت أغلبية جيش علي (رضي الله عنه) في اتجاه الموادعة وكانوا يرددون: قد أكلتنا الحرب، ولا نرى البقاء إلا عن الموادعة. وهذا ينقض ذلك الرأي المتهافت الذي رُوِّج بأن رفع المصاحف كان خدعة من عمرو بن العاص (رضي الله عنه). والحق أنَّ فكرة رفع المصاحف لم تكن جديدة وليست من ابتكار عمرو بن العاص (رضي الله عنه) بل رُفع المصحف في الجمل ورشق حامله كعب بن سور قاضي البصرة بسهم وقتل.
د – الاستجابة لصوت الوحي الداعي للإصلاح، قال تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59]؛ ويؤيد هذا ما قاله علي بن أبي طالب حينما عرض عليه الاحتكام إلى كتاب الله قال: نعم أنا أولى بذلك، بيننا وبينكم كتاب الله. (مصنف ابن أبي شيبة 8/336).
2- المعاملة الكريمة أثناء الحرب والمواجهة:
إنّ وقعة صفين كانت من أعجب الوقائع بين المسلمين، فقد كانت هذه الواقعة من الغرابة إلى حدِّ أن القارئ لا يصدق ما يقرأ، ويقف مشدوهاً أمام طبيعة النفوس عند الطرفين، فكل منهُم كان يقف وسط المعركة شاهراً بسيفه وهو يؤمن بقضيته إيماناً كاملاً، فليست معركة مدفوعة من قبل القيادة، يدفعون الجنود إلى معركة غير مقتنعين بها، بل كانت معركة فريدة في بواعثها وفي طريقة أدائها وفيما خلفتها من آثار، فبواعثها في نفوس المشاركين يعبر عنها بعض المواقف التي وصلت إلينا في المصادر التاريخية، فهم إخوة يذهبون معاً إلى مكان الماء، فيستقون جميعاً، ويزدحمون وهم يغرفون الماء، وما يؤذي إنسان إنساناً. (تاريخ الطبري، 5/610).
وهم إخوة يعيشون معاً عندما يتوقف القتال، فهذا أحد المشاركين يقول: كنا إذا تواعدنا من القتال دخل هؤلاء في عسكر هؤلاء، وهؤلاء في معسكر هؤلاء.. وتحدثوا إلينا وتحدثنا إليهم، وهم أبناء قبيلة واحدة، ولكل منهما اجتهاده، فيقاتل أبناء القبيلة الواحدة كل في طرف قتالاً مريراً، وكل منهما يرى نفسه على الحق، وعنده الاستعداد لأن يُقْتَل من أجله، فكان الرجلان يقتتلان حتى يُثْخِنا (وهناً وضعفاً)، ثم يجلسان يستريحان، ويدور بينهما الكلام الكثير، ثم يقومان فيقتتلان كما كانا، وهما أبناء دين واحد يجمعهما، وهو أحب إليهما من أنفسهما، فإذا حان وقت الصلاة توقفوا لأدائها، ويوم قتل عمار بن ياسر صلى عليه الطرفان. (مرويات أبي مخنف، اليحيى، ص 296).
وكانوا يسارعون إلى التناهي عن المنكر حتى في مثل هذه المواقع، فكانت هناك مجموعة عرفوا بالقراء، وكانوا من تلامذة عبد الله بن مسعود من أهل الشام معاً، فلم ينضموا إلى أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) ولا إلى معاوية بن أبي سفيان، وقالوا لأمير المؤمنين:
إنا نخرج معكم ولا ننزل عسكركم، ونعسكر على حدة حتى ننظر في أمركم وأمر أهل الشام، فمن رأيناه أراد ما لا يحل له، أو بدا منه بغي كنا عليه، فقال علي: مرحباً وأهلاً، هذا هو الفقه في الدين، والعلم بالسنة؛ من لم يرضَ بهذا فهو جائر خائن. والحقيقة أن هذه المواقف منبعثة من قناعات واجتهادات استوثقوا منها في قرارة أنفسهم وقاتلوا عليها. (دراسات في عهد النبوة، عبد الواحد، ص 424).
3 – معاملة الأسرى:
إنّ المعاملة الحسنة للأسير وإكرامه في صفين من الأمور البدهية بعد ما استعرضنا المعاملة الكريمة أثناء القتال، وقد بين الإسلام معاملة الأسرى؛ فقد حث رسول الله ﷺ على إكرام الأسير، وإطعامه أفضل الأطعمة الموجودة، هذا مع غير المسلمين؛ فكيف إذا كان الأسير مسلماً، لا شك أنّ إكرامه والإحسان إليه أولى، ولكن الأسير في هذه المعركة يعتبر فئة وقوة لفرقته، ولذلك كان علي (رضي الله عنه) يأمر بحبسه، فإن بايع أخلى سبيله، وإن أبى أخذ سلاحه ودابته، أو يهبهما لمن أسره ويحلفه إلا يقاتل، وفي رواية: يعطيه أربعة دراهم. (كتاب قتال أهل البغي من الحاوي الكبير، ص 133).
وغرض الخليفة الراشد من ذلك واضح، وهو إضعاف جانب البغاة، وقد أتي بأسير يوم صفين، فقال الأسير: لا تقتلني صبراً، فقال علي (رضي الله عنه): لا أقتلك صبراً إني أخاف الله رب العالمين، فخلى سبيله ثم قال: أفيك خير تبايع. (الأم، الشافعي، 4/224)
ويبدو من هذه الروايات أن معاملته للأسرى كما يلي:
- إكرام الأسير والإحسان إليه.
- يعرض عليه البيعة والدخول في الطاعة، فإن بايع أخلى سبيله.
- إن أبى البيعة أخذ سلاحه، ويحلِّفه ألا يعود للقتال ويطلقه.
- إن أبى إلا القتال تحفظ عليه في الأسر ولا يقتله صبراً. (خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد ، ص 243).
- وقد أتى رضي الله عنه مرة بخمسة عشر أسيراً، ويبدو أنهم جرحى، فكان من مات منهم غسله وكفنه وصلى عليه. (تاريخ دمشق، ابن عساكر، 1/331).
ويقول محب الدين الخطيب معلقاً على هذه الحرب: ومع ذلك، فإن هذه الحرب المثالية هي الحرب الإنسانية الأولى في التاريخ التي جرى فيها المتحاربان معاً على مبادئ الفضائل التي يتمنى حكماء الغرب لو يعمل بها في حروبهم ولو في القرن الحادي والعشرين، وإن كثيراً من قواعد الحرب في الإسلام لم تكن لتعلم وتدوَّن لولا وقوع هذه الحرب، ولله في كل أمر حكمة. (العواصم من القواصم، ابن العربي، ص 168).
4- عدد القتلى:
تضاربت أقوال العلماء في عدد القتلى؛ فذكر ابن أبي خيثمة أنّ القتلى في صفين بلغ عددهم سبعين ألفاً، من أهل العراق خمسة وعشرين ألفاً، ومن أهل الشام خمسة وأربعين ألف مقاتل، وتذكر بعض كتب التاريخ أنّ عدد القتلى في صفين بلغ سبعين ألفاً أو أكثر. (الصواعق المرسلة، 1/377)
ولا شك أنَّ هذه الأرقام غير دقيقة، بل أرقام خيالية، فالقتال الحقيقي والصدام الجماعي استمر ثلاثة أيام مع وقف القتال بالليل، إلا مساء الجمعة، فيكون مجموع القتال حوالي ثلاثين ساعة، ومهما كان القتال عنيفاً، فلن يفوق شدة القادسية التي كان عدد الشهداء فيها ثمانية آلاف وخمسمئة، وبالتالي يصعب عقلاً أن نقبل تلك الروايات التي ذكرت الأرقام الكبيرة. (الدولة الأموية، بك، ص 360).
5 – تفقد أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) القتلى وترحمه عليهم:
كان أمير المؤمنين علي رضي الله عنه بعد نهاية الجولات الحربيّة يقوم بتفقد القتلى، فيقول شاهد عيان: رأيت علياً (رضي الله عنه) على بغلة النبي ﷺ الشهباء، يطوف بين القتلى، وأثناء تفقده القتلى ومعه الأشتر، مر برجل مقتول ـ وهو أحد القضاة والعباد المشهورين بالشام ـ فقال الأشتر ـ وفي رواية أخرى عدي بن حاتم ـ: يا أمير المؤمنين! أحابس معهم؟ عهدي والله به مؤمن، فقال علي: فهو اليوم مؤمن. ولعل هذا الرجل المقتول هو القاضي الذي أتى عمر بن الخطاب وقال: يا أمير المؤمنين، رأيت رؤيا أفظعتني، قال: ما هي؟ قال: رأيت الشمس والقمر يقتتلان، والنجوم معهما نصفين، قال: فمع أيهما كنت؟ قال: مع القمر على الشمس، فقال عمر: قال تعالى: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آية اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آية النَّهَارِ مُبْصِرَةً﴾ [الإسراء: 12]، فانطلق فوالله لا تعمل لي عملاً أبداً. قال الراوي: فبلغني أنه قتل مع معاوية بصفين.
وقد وقف علي على قتلاه وقتلى معاوية فقال: غفر الله لكم، غفر الله لكم، للفريقين جميعاً. (خلافة علي بن أبي طالب، عبد الحميد، ص 250).
6 – موقف لمعاوية مع ملك الروم:
استغل ملك الروم الخلاف الذي وقع بين أمير المؤمنين علي ومعاوية رضي الله عنهما، وطمع في ضم بعض الأراضي التي تحت هيمنة معاوية إليه، قال ابن كثير:”… وطمع في معاوية ملك الروم بعد أن كان أذله، وقهر جندهم ودحاهم، فلما رأى ملك الروم اشتغال معاوية لحرب علي (رضي الله عنه)، تدانى إلى بعض البلاد في جنود عظيمة وطمع فيه، فكتب معاوية إليه:
والله لئن لم تنته وترجع إلى بلادك يا لعين لأصطلحن أنا وابن عمي عليك، ولأخرجنك من جميع بلادك، ولأضيقن عليك الأرض بما رحبت، فعند ذلك خاف ملك الروم وانكف، وبعث يطلب الهدنة”، وهذا يدل على عظمة نفس معاوية وحميته للدين. (البداية والنهاية، ابن كثير، 8/122).
7 – مرور أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) بالمقابر بعد رجوعه من صفين:
لما انصرف علي أمير المؤمنين رضي الله عنه من صفين مرّ بمقابر، فقال: السلام عليكم أهل الديار الموحشة، والمحالّ المقفرة من المؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات، أنتم لنا سلف فارط، ونحن لكم تبعٌ، وبكم عمّا قليل لاحقون، اللهم اغفر لنا ولهم، وتجاوز بعفوك عنا وعنهم، الحمد لله الذي جعل الأرض كفاتاً، أحياءً وأمواتاً، الحمد لله الذي خلقكم وعليها يحشركم، ومنها يبعثكم، وطوبى لمن ذكر المعاد وأعدّ للحساب، وقنع بالكفاء.
8 – إصرار قتلة عثمان (رضي الله عنه) على أن تستمر المعركة:
إنّ قتلة عثمان كانوا حريصين على أن تستمر المعركة بين الطرفين، حتى يتفانى الناس، وتضعف قوة الطرفين، فيكونوا بمنأى عن القصاص والعقاب، ولذلك فإنهم فزعوا وهم يرون أهل الشام يرفعون المصاحف، وعلي رضي الله عنه يجيبهم إلى طلبهم فيأمر بوقف القتال وحقن الدماء، فسعوا إلى ثني أمير المؤمنين عن عزمه، لكن القتال توقف، فسقط في أيديهم، فلم يجدوا بداً من الخروج على علي (رضي الله عنه)، فاخترعوا مقولة: (الحكم لله)، وتحصّنوا بعيداً عن الطرفين، والغريب أن المؤرخين لم يركزوا على ما فعله هؤلاء في هذه المرحلة، كما فعلوا في معركة الجمل، رغم أنهم كانوا موجودين في جيش علي (رضي الله عنه) ، وعن سر إخفاق تلك المفاوضات التي دامت أشهر عديدة، وعن الدور الذي يمكن أن يكون قتلة عثمان قد قاموا به في معركة صفين لإفشال كل محاولة صلح بين الطرفين، لأن اصطلاح علي مع معاوية هو أيضاً اصطلاح على دمائهم، فلا يعقل أن يجتهدوا في الفتنة في وقعة الجمل، ويتركوا ذلك في صفين. (أحداث وأحاديث فتنة الهرج، ص 147).
9- نهي أمير المؤمنين علي (رضي الله عنه) عن شتم معاوية ولعن أهل الشام:
روي أن علياً (رضي الله عنه) لمّا بلغه أن اثنين من أصحابه يظهران شتم معاوية ولعن أهل الشام، أرسل إليهما أن كفّا عمّا يبلغني عنكما، فأتيا فقالا: يا أمير المؤمنين! ألسنا على الحق وهم على الباطل؟: قال: بلى وربّ الكعبة المسدّنة، قالا: فلماذا تمنعنا من شتمهم ولعنهم؟ قال: كرهت لكم أن تكونوا لعّانين، ولكن قولوا: اللهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، وأبعدهم من ضلالتهم حتى يعرف الحق من جهله، ويرعوي عن الغيّ من لجج به.
وأما ما قيل من أن علياً (رضي الله عنه) كان يلعن في قنوته معاوية وأصحابه، وأن معاوية إذا قنت لعن عليّاً وابن عباس والحسن والحسين، فهو غير صحيح، لأنّ الصحابة ـ رضوان الله عليهم ـ كانوا أكثر حرصاً من غيرهم على التقيد بأوامر الشارع الذي نهى عن سباب المسلم ولعنه؛ فقد روي عن رسول الله ﷺ قوله: «من لعن مؤمناً فهو كقتله»، وقوله ﷺ: «ليس المؤمن بطعان ولا بلعّان»، وقوله ﷺ: «لا يكون اللعانون شفعاء ولا شهداء يوم القيامة». (تحقيق مواقف الصحابة، 2/232).
كما أن الرواية التي جاء فيها لعن أمير المؤمنين في قنوته لمعاوية وأصحابه، ولعن معاوية لأمير المؤمنين وابن عباس والحسن والحسين؛ لا تثبت من ناحية السند؛ حيث فيها أبو مخنف لوط بن يحيى الرافضي المحترق الذي لا يوثق في رواياته، كما أن في أصح كتب الشيعة عندهم جاء النهي عن سب الصحابة، فقد أنكر على من يسب معاوية ومن معه فقال: إني أكره لكم أن تكونوا سبابين، ولكنكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم: اللهم أحقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، فهذا السب والتكفير لم يكن من هدي علي باعتراف أصح كتاب في نظر الشيعة. (نهج البلاغة ، ص 323).
وأخيراً، وفي ختام هذا المقال يمكن القول: إن ما رأيناه في إعلان التحكيم بين الصحابة الكرام هو انصياع لأمر الله تعالى، واستجابة لصوت الوحي الداعي للإصلاح، في قوله الله تعالى: ﴿فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ﴾ [النساء: 59]، ومثلت تلك الأحداث روعة أخلاق أمير المؤمنين أبو الحسنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه وأرضاه)، والتي تُقرب بين المسلمين وتُجمع شملهم في كل الأزمان، في استجابته لنداء الحكمة وهو صاحب العقل والتدبير والفطنة، ومنعه شتم معاوية بن أبي سفيان (رضي الله عنه) وأهل الشام؛ إنما تحتم علينا التخلق بأخلاقه، والسير على نهجه في التعامل مع المسلم وغير المسلم، والإصلاح بين الناس بالحق ووفق كتاب الله وسنة نبيه المصطفى (صلى الله عليه وسلم)، وهذا ما دفعني لإعداد هذه السلسلة في كشف مغالطات وشبهات رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي في اتهامه الصحابة (رضوان الله عليهم) زوراً وافتراءً، وركوبه موجة التشويه، وإثارة النعرات بين المسلمين في وقت هم أحوج فيه لِلم شملهم وجمع كلمتهم، والتصدي لأعداء الله بالحجج والبراهين والمنطق، وحفظ الدين الحنيف، ونشر الدعوة، وتعزيز الأخلاق والقيم والفكر السليم بين أبناء الإنسانيّة قاطبة.
__________________________
- التفسير المنير، وهبة الزحيلي، (26/239).
- منهج القرآن الكريم في إصلاح النفوس للحريري، محمد رمضان عبد الله، ص .16
- وقعة صفين للمتغري ، ص .479
- الدولة الإسلامية في عصر الخلفاء الراشدين، شاهين حمدي ، ص .316
- الكامل في التاريخ، ابن الأثير، (2/386).
- الإنصاف فيما وقع في تاريخ العصر الراشدي من الخلاف، ص 530.
- دراسة في تاريخ الخلفاء الأمويين، محمد ضيف الله، ص 38
- دراسات في عهد النبوة ، عبد الرحمن شجاع عبد الواحد، ص 433.
- سير أعلام النبلاء، الذهبي، (2/41).
- البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، (7/270).
- تاريخ دمشق، ابن عساكر، (18/2339).
- خلافة علي بن أبي طالب ، عبد الحميد ، ص 243.
- الأم، الإمام الشافعي (4/224) (8/256).
- الصواعق المرسلة بدون سند ، تحقيق: محمد دخيل الله، (1/377)
- البيان والتبيين، للجاحظ (3/148)
- أحداث وأحاديث فتنة الهرج ، عبد العزيز صغير دخان، ص 147.
المرجع الأساسي للمقال:
- أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، ط2 1430 ه/ 2009م، ص. ص 316 – 335. رابط الكتاب في موقع الدكتور علي الصلابي: http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/632