في يوم «بدر»، خرج الفتى تدفعه يفاعتُهُ(1) وتتقدمُهُ غيرتُهُ ليأخذ مكانه إلى جوار الكوكبة الفريدة التي خرجت مُنافِحَةً(2) عن الدين، فلا هو أقل منهم رغبة في البذل من أجل الدين، ولا هم أكثر منه إدراكًا لفكرة مرور الإسلام بمرحلة فاصلة، فانطلق وكأنه عرف لطريقِهِ بدءًا، ويتفجر شوقًا للمضي فوقه.
وشرع النبي صلى اللهُ عليه وسلم في تفقد أحوال الجيش وتعديل صفوفِهِ، وصوّب إليه نظرة فاحصة فاستصغرَهُ وردَّهُ، فبرَقتْ الحسرةُ على وجهِهِ، وتألقتْ في نظراتِهِ المتوسلةِ.
إنه الرفق النبوي والشفقة الشريفة على الفتى ونظائرِهِ من غمرات(3) الحرب وأهوالها، وساحتها التي لا يُبْقي أحدٌ على أحدٍ فوقَها.
ثم إنها المهارة الحربية له صلى الله عليه وسلم، فهو يدخر رجولتَهم القادمة للذبِّ(4) عن الدين في مستقبل أيامِهِ؛ لأن الزجَّ بهم الآن في نير الحرب مع عدم خبرتهم بفتكها لا معنى له سوى هلاكهم، وهو الذي يُجنب أصحابه الهلاك ما أُتيح له ذلك.
وعاد الفتى مستشعرًا حسرةً لا يُضارعُ(5) مرارتها إلا ما يشعر به نظائِرُهُ(6) لنفس السبب.
وفي يومِ «أُحد»، خرج الفتى وفي يدِهِ حَرْبَةٌ(7) جعل يحركُها ويتقاذفُها بسرعةٍ تَرْمُزُ إلى مهارتِهِ في التعامل مع الحِرابِ وهو يختلسُ النظراتِ إلى وجه النبي صلى الله عليه وسلم مراقبًا ومترجمًا لتعابيرِهِ الشريفةِ، ولمَّا لمح عليه إعجابًا به دنا منه ببعض أهلِهِ مُشفِّعًا إياهُم عندَهُ ليجيزَهُ للحربِ، وفجأة تبرقُ السعادةُ على وجهِهِ ويتلفت حوله محبورًا يودُّ الصراخ لتسمع الدنيا من أقصاها إلى أقصاها أن النبي صلى الله عليه وسلم أجازَهُ للحربِ وبلَّغَهُ مُناهُ(8).
فمن هذا الفتى الذي أدركته الرجولة قبل أوانها؟!
من هذا الفتى الذي انحصرتْ قضية الإسلام على خطرها في إدراكِهِ الفاقه(9)، وهفتْ نفسُهُ إلى غاية الدفاع عنها، وحثَّ الخطى صوبَ غايتِهِ ولهثَ خلفَها؟!
ألا فلنسأل التاريخ عنه؟ إنه رافعٌ بن خديجٍ بن رافع بن عدي الأنصاري الأوسي رضي الله عنه، أمه حليمة بنت مسعود بن سنان بن عامر من بني بياضة.
وكان هناك من يرقبُ رافعًا ويطمحُ إلى مشاطرتِهِ(10) في السعي صوب نفس الغاية، واللهاث خلفها، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد استصغره أيضًا وردَّهُ، فراح يتطلعُ إلى رافعٍ بعيونٍ ملؤُها الغبطة والرغبة في المنافسة، وأدار الفتى ذهنَهُ سريعًا في كيفية نَيْلِ ما نالَهُ رافعٌ من شرفٍ وعزِّةٍ، وما لبث أن وجد السبب، فدنا من النبي صلى الله عليه وسلم ومعه بعض أهله مشفعًا إياهُم عنده ومبينين له جواز مرورِهِ إلى غايتِهِ.
قالوا: يا رسول الله، إن هذا يصرع رافعًا، فنظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى الفتى نظرة تجمع بين إعجاب واستفسار، فعجَلَ الفتى يقول: أجل يا رسول الله، لقد أجزت هذا ورددتني ولو صارعتُهُ لصرعتُهُ.
فقال النبي باسماً: «فدونَكَ فصارعْهُ».
وبرز كلا الفتيين للآخرِ مشمرًا عن ساعدِهِ، وتصارعا صراعًا ينبئ عن فتوة وبطولة، وأخيرًا صرعَ الفتى رافعًا، ثم خفَّ ليقف بين يدى النبي مغتبطًا نشوانًا، فأجازَهُ صلى الله عليه وسلم وأرضى نفسَهُ ومنحَهُ الأمنيةَ.
فمن هذا الفتى الذي يتغيَّا(11) خوض غمراتِ الحربِ لكأنها حلمٌ جميلٌ يهنأ بين أحداثِهِ؟
من هذا الفتى الصلب الذي لا يرى معنىً للحياةِ دون أن يُلقي بنفسِهِ بين ويلاتِ الحربِ من أجلِ الدين غير عابئ بوقذِها(12) الأليم؟
إنه سَمُرَةُ بنُ جندبٍ بنِ هلالِ الغطفاني، قدِمَت به أمه إلى المدينة بعد موت أبيه، فتزوجها مُري بن سنان بن ثعلبة الأنصاري فكان سمرة في حجره إلى أن صار غلامًا.
وبجوار جبل «أحدٍ» دقت طبولُ الحربِ، وتداخلت الأصواتُ: قعقعةُ السلاحِ، وصهيلُ الخيلِ، وصياحُ الرجالِ، واندفع رافعٌ داخل المشهدِ في ولاءٍ باهرٍ للدينِ، وجعل يُنافحُ عن الدين بقدرِ طاقاتِهِ وإمكاناتِهِ حتى أوقفَهُ سهمٌ أصابَهُ في ترقوتِهِ(13).
فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «أنا أشهد لك يومَ القيامةِ»(14).
أما سَمُرَةُ فظلَّ يقاتلُ عامةَ يومِهِ بإخلاصٍ وثيقٍ.
وبعدُ فقد كان رافع، وسمرة، على موعدٍ مع عامةِ الغزواتِ الشريفةِ.
ودارت بهما أيامُهما، وغدا رافعٌ سيد قومِهِ والقيِّم بأمرِهِم، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم، وروى عنه بعض الصحابة وبعض التابعين، وشهد وقعة صفين مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
وأما سَمُرَةُ فقد حفظ عن النبي صلى الله عليه وسلم في صغرِهِ إلى حدٍّ جعله جديرًا بالحديث عنه، وكان يقول في كبرِهِ بروحٍ تفيض بشرًا وحبورًا: لقد كنت على عهد رسول الله غلاماً فكنت أحفظ عنه، وما يمنعني من القول إلَّا أنَّ ها هنا رجالاً هم أسنُّ مني(15).
إنه ليزدهي ويفخر بحفظه عن النبي صلى الله عليه وسلم، ولا يرى بأسًا في أن يُحدِّث عنه، ولكنه يُحدِّثنا بأن الأدب –مع الكبار- من أخصِّ سمات المسلم فيمسك عن القيام فيهم متحدِّثًا، مفسحًا المجال لهم، ومنزِلًا إياهم منازلهم، وكفاه ثناء أهل العلم عليه.
ونزل البصرة وقد سبقتْهُ مؤهلاتُهُ إلى هناك فأنزلَهُ زيادُ بن أبيهِ مكانتَهُ وجعل يتناوب معه الولاية على البصرة والكوفة.
وبعدما سلكا من أجل الدين كل سبيل توفي سَمُرَة سنة ثمان وخمسين، وتوفي رافع سنة أربع وسبعين وقد بلغ ستاً وثمانين، بعدما حلَّ كل منهما مكانَهُ في دنياه، ولولا نورٌ من إخلاصٍ ملأ ما بين جنبيهما ما نزلاه، ورحلا بعدما خلَّفا للشبابِ أسوةً(16) حقيقة بالاتساء(17).
__________________________
(1) سِنُّ التَّرَعْرُعِ، وبداية قُوَّةُ الشَّبَابِ، وفُتُوَّته.
(2) مدافعة.
(3) شدائد ومكاره، جمع غمرة.
(4) للدفاع والمنع.
(5) لا يُشَابه.
(6) نَظَائِرُ: جمع نظير؛ وهو المشابه والمماثل في السن.
(7) آلةٌ قصيرةٌ من الحديد ذات رأس محدودة وحادة كالسكين.
(8) القصد والهدف.
(9) إدراكه الواعي الفاهم.
(10) مقاسمته.
(11) يجعل أمر خوض الحرب غاية يسعى إليها.
(12) غير مهتم بشدة ضرب الحرب وحرارته، والوقذ هو الضرب الشديد القاتل.
(13) عظمة بارزة قليلًا أعلى الصدر، وهما ترقوتان يربطان الذراعين بجذع الجسم، مفرد تراق.
(14) أخرجه الإمام أحمد (6/ 387) من حديث امرأة رافع بن خديج.
(15) صحيح، أخرجه مسلم (964).
(16) قدوة.
(17) بالاقتداء.