صرت موظفاً وأمسكَ بمعصمي القيدُ، ولكنه كان قيداً واسعاً أستطيع أن أُخرِج يدي منه متى شئتُ. بعت بعضَ وقتي بهذا الراتب وبعضَ حرّيتي، ولكن لم أبع ضميري ولا لساني، فأنا لا أزال حرّ الضمير طليق اللسان، ما هجرت المنابر ولا طلّقت الصحف، بل عدت إلى الأموي أخطب فيه كلما حدث حادث، فما إن أصيح صيحتي المعروفة (إليّ إليّ عباد الله) ويتبين المصلون صوتي تتجاوب أصداؤه من أرجاء المسجد، يصل إليها بلا مكبّر للصوت، حتى يُقبِلوا عليّ ويسرعوا إليّ ليسمعوا مني ما كانوا يسمعونه قبل أن أصير موظفاً. وربما قدت المظاهرات تخرج منه كما كنت أقودها قبل أن أكون موظفاً، ورجعت أكتب في الصحف ما يُرضي الحكومة وما يُغضِبها، ما جعلت من همّي يوماً رضاها ولا غضبها، كان كل همي أن أرضي ربي وأن أكون صادقاً أمام نفسي.
المقالات التي كتبتها في هذه المدة كثيرة جداً، لكنْ لا تسألوني عن عددها لأني لم أجمعها كلها، فهل يأتي -يوماً- من يكون أحرصَ على جمعها مني أنا صاحبها، فيبحث في مجموعات الصحف الشامية: فتى العرب، والمقتبس، والقبس، وألف باء، والجزيرة التي أنشأها تيسير ظبيان، والناقد، والمكشوف لفؤاد حبيش في بيروت، فيأخذ ما كتبته فيها فيجعل منه «المجموعة الكاملة» لبواكير كتاباتي التي لم أجمع منها في كتاب إلا ما اشتمل عليه كتابي «الهيثميات» الصادر سنة 1930م؟ ولكن هب أنها جُمعت وطُبعت، فما انتفاعي أنا وما انتفاع الناس بها؟ فدعوها مدفونة فلن تُرجع لمن مات الروح!
موضوعات هذه المقالات كثيرة، ولكن أهَمّها: موضوع النضال للاستقلال وما صنعنا في هذا المجال، وموضوع الماضي وأمجاده، ما كتبتها لنفخر بها وننام عليها بل لنصنع مثلها، والنقد الأدبي وما نتج عنه من مناظرات وردود، وقصص من التاريخ، وصور ومشاهدات من الحياة، وتعليق على بعض أفلام السينما وتلخيص لقصصها (عرفتم أني كُلّفت بذلك لمّا احترفت الصحافة) والموضوع الذي أخذ من قلبي ومن لساني الحظّ الأوفر: وهو قضية فلسطين التي كنت أكتب فيها وأخطب في أواخر العشرينيات.
لقد ضاع (مع الأسف) أكثر ما كتبت يومئذ، ولكن أمامي الآن مقالة كُتب لها البقاء، نُشرت «افتتاحية» لعدد يوم الأحد 15/ 10/ 1933م من جريدة «ألف باء» للأستاذ يوسف العيسى، أنذرت فيها العرب «داهية دَهياء لا ينادى وليدها» إن بقينا على تجاهلنا قضية فلسطين؛ كأني كنت (وكان غيري ممّن يكتب عن هذه القضية) نحس بالخطر الذي يتربص بفلسطين وأهلها، ما اطّلعنا على الغيب ولكنّ المقدمات أشعرَتنا بالنتائج. فكتبت وكتب مَن هو أكبر مني في البلاغة قدراً وأعلى في البيان مكاناً وأعرف بالسياسة ظواهرها وخفاياها، نصرخ في قومنا كما كان يصرخ في القبيلة النذير العريان، وممّا جاء في هذه المقالة حملة على الأدباء قلت لهم فيها:
أيهيج نفوسَكم ويؤلمكم ويسوّد الدنيا في عيونكم حبيبٌ يُعرِض عنكم، أو ليلة وصال منه تخسرونها، أو ابتسامة يُحجَب عنكم نورها؟ ولا يؤلمكم أمة في فلسطين تضيع بقَضّها وقَضيضها، يهاجمها في عقر دارها أذلّ شعب وأخسّه وأهونه على الله والتاريخ؟ يستلب بالثمن الغالي أرضها يشتريها منها، ثم يبعث بالفاسقات من بناته فيسترده منها، يعطيها بأيدي رجاله ويذهب ما أعطى من بين أرجُل … نسائه! ألا يؤلمكم أن تصبحوا يوماً فتجدوا أن فلسطين صارت لغيركم، وأنكم صرتم غرباء في أرضكم أو تائهين مشرّدين في أرض الناس؟ ونحن نعرف «اليهودي التائه»، فهل تسكتون حتى يصير منا «العربي التائه»؟
الأدب هو محرّك الشعوب ومثير الهمم وباعث العزائم، الأدب يوقظ النائم وينبّه الغافل، فأين أنتم يا أدباء العرب من «قضية فلسطين»؟ إن خطبة طارق فتحت الأندلس، وخطب نابليون أكسبَته إسترلتز، وخطب فيخته أعادت الروح إلى الألمان وأرجعتهم إلى مكانهم من الحياة، فأين القصائد الفلسطينيات؟ أين الأقلام الحرّة المؤمنة التي يتطوّع أصحابها ليكونوا جنوداً في معركة فلسطين: تصف نكبة فلسطين وتحرّك الدنيا لنصرة فلسطين، بل تهزّ قبل ذلك أهل فلسطين وجيران فلسطين ليتداركوا فلسطين قبل أن يأتي يوم يندمون فيه، وليس ينفع في ذلك اليوم الندم.
لقد مرّ على دخول الإنجليز فلسطين 15 سنة، ودخول اليهود معهم، حشرات متعلقات بأذنابهم. أفما تكفينا خمس عشرة سنة(1) لنصحو من نومنا ونفتح عيوننا، فنبصر الماء يجري من تحتنا وبوادر النار من حولنا، والهوة السحيقة أمامنا نمشي إليها بأقدامنا؟
(إلى أن قلت): لينظم الشعراء القصائد في نكبة فلسطين، وليتغنَّ المغنّون بشعر فلسطين، ولتؤلَّف اللجان في كل بلد عربي، في كل بلد مسلم لإنقاذ فلسطين. لم تأتِ الآن معركة الدم والحديد، فلنحارب بالمال، لنردّ عدوان اليهود بالفكر السديد، بالخُطَط المدروسة، بالاتحاد، وقبل هذا كله وبعد هذا كله بالعودة إلى الله، لأن العدوّ مهما كبر ومهما كبر من يعينه وينصره فالله أكبر، فمن كان مع الله لم يخَف أحداً.
لنبدأ بجمع المال لإنقاذ فلسطين، ليقدّم كلٌّ ما يستطيع لا يخجل به مهما قلّ، إن الشحّاد يستطيع أن يقدّم «نِكلة» في الشهر فليقدّمها(2)، نكلة في الشهر، وقرش في الشهر، وفرنك في الشهر، وربع ورقة في الشهر، ونصف ورقة في الشهر.. وأنا رجل مفلس ولكني أقدم من اليوم نصف ورقة في الشهر، لا تقولوا: إن ذلك قليل، فالقليل إلى القليل كثير، ولو أن أهل دمشق دفعوا ما يعادل ربع ليرة فقط من كل منهم لاجتمع في الشهر خمسة وسبعون ألف ليرة.
يا أيها الناس، إخوانكم وأبناء عمّكم يريد اليهود أن يطردوهم غداً من ديارهم أن يُميتوهم، فاشتروا حياتهم بمالكم. الأدب، ثم المال، ثم الدم؛ هذه هي الأركان التي يقوم عليها العمل لإنقاذ فلسطين. فسيروا فهذا هو الطريق، سيروا من الآن بخُطى ثابتة وسريعة، لا يجوز أن نتمهل فالوقت يمرّ علينا لا لنا. يا أيها الناس، ثقوا أنها إن ضاعت فلسطين ضعنا.
هذا ما قلته من أكثر من خمسين سنة، ولكن ما سمعه أحد. ولو أننا جمعنا كل شهر في دمشق وحدها خمسة وسبعين ألف ليرة لمساعدة فلسطين واستمررنا عليها، فكم كان يجتمع لنا إلى الآن؟ لقد كانت موازنة «دولة سورية» يومئذٍ سبعة ملايين ليرة. كان ثمن الليرة الذهبية الرشادية خمس ليرات سورية ونصف الليرة. خمسة وسبعون ألف ليرة تعدل بقوّتها الشرائية -يومئذ- مليونَي ليرة اليوم أو أكثر. فلو جمعنا من كل بلد من بلاد المسلمين مثلها لاشترينا فلسطين من جديد.
لقد كتبت بعد هذه المقالة عشرات من المقالات، وكتب غيري ممّن هو أخلص مني وأفصح وأغيَر مئات، فما تنبّه أحد.
___________________________
(1) دخلوها سنة 1918م.
(2) النكلة نصف قرش سوري، والقرش يعادل هلالة (هللة)، والهللة كالملّيم في مصر والفلس في العراق، والورقة (أي الليرة) مئة قرش والفرنك خمسة قروش.
– من كتاب «ذكريات».