هناك اتفاق بين العلماء على وجوب دراسة السيرة، خصوصًا للدعاة؛ لما دعا إليه القرآن الكريم: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) [الأحزاب: 21]، (وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ) [النور: 54]. بل توسع بالأمر بالنظر في سير الأولين؛ أنبياء وتابعين: (وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ) [هود: 120]، (قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [آل عمران: 137].
ووجوب دراسة سيرة المعصوم ﷺ وتاريخه علَّله العلماء بأنه دراسة لتاريخ الإسلام ذاته، ثم التعرُّف على نبيه ﷺ نسبه وشرفه، وصدقه وأمانته، وأنها مهمة لفهم طبيعة الدعوة، وعقباتها ومراحلها، فضلًا عن فهم العلوم الشرعية والأحكام الفقهية؛ ما جعل السلف يعنون بها أشد العناية عملًا بالحديث الشريف: (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء المهديين من بعدي، عضوا عليها بالنواجذ) حتى عدّها الزهري (علم الدنيا والآخرة)، ويقول علي بن الحسين –رضي الله عنهما-: (كنا نُعَلَّم مغازي رسول الله ﷺ كما نُعَلَّم السورة من القرآن)، أما إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص فيقول: (كان أبي يعلمنا المغازي ويعدها علينا ويقول: هذه مآثر آبائكم فلا تضيعوها.
الحدث الأهم
والهجرة النبوية –التي تحل ذكراها هذه الأيام- هي الأهم في سيرة الإسلام ونبيه الأعظم ﷺ، وهي الأهم كذلك بالنسبة للدعاة؛ إذ لو لم تنجح لم يكن للإسلام دولة وربما هلك في مهده، وأحداثها عِبرٌ وأمثلة للمصلحين؛ إذ كانت ثورة على الجهل والفساد والاستبداد، وكانت مفتتحًا لا بد منه لقيام دولة الإسلام التي استطالت في الأفق حتى بلغت مشارق الأرض ومغاربها، واستطالت في الزمن حتى عمرت ما لم تعمره حضارة أخرى. وفيها –أي في أحداث الهجرة- فقه شامل للدعاة في قضايا الأخذ بالأسباب، والتعامل مع الآخر، والولاء والبراء، والتضحية، وحب الوطن، ودور المرأة في المجتمع المسلم.. وقضايا أخرى مهمة نشير إليها في موضعها.
وتأتي الذكرى الشريفة وفي المسلمين تنازع وفشل، وركود وعقم فكري، واعوجاج في الصف، وسوء تقدير في القيادة.. ولو تدبروا أحداث الهجرة وعملوا بما فيها لاستقام المعوج، ولاهتدى الضال، ولحار الخصم فينا كما حار الأحزاب في محمد وصحبه.
أهمية التربية الإيمانية
لقد غاب عنا أن التربية الإيمانية هي التي تؤسس للأعمال العظيمة، وهي التي تقوِّي الظهر، وتشد الأزر، وترهب الخصم، وتمنع اختراق الصف، وأن الاستغراق فيما دونها من أعمال ينقص الإيمان، ويزيد سواد الثرثارين، وينقص أعداد العاملين؛ فينخر السوس في جسد الدعوة حتى يصير إخوة الأمس أعداء اليوم، وبدلًا من أن يكون الصف منصة واحدة تتعدد منصاته، بل ينقلب شيعًا وأحزابًا.
لم يهاجر النبي ﷺ يوم هاجر إلا بعد إذن ربه وبعدما اطمأن إلى فدائية وإخلاص تلك الثلة المؤمنة التي سيُلْقَى عليها عبء إقامة دولته وصون مهام دعوته؛ حينها أذن لهم بالخروج قال: (قد أجزت لكم بدار هجرتكم، وهي يثرب، فمن أراد الخروج فليخرج)؛ فكانوا هم الطليعة، وقد وثقوا في تلك القيادة واطمأنوا إلى تجردها وحذقها، وقد علموا أنهم مهاجرون إلى أرض طيبة، وقاعدة صلبة قد استقر فيها الإسلام ولهم فيها إخوة منذ زمن؛ منذ أن اختار زعيمهم اثني عشر نقيبًا في بيعة العقبة الأولى استشرف فيهم الريادة والمروءة والصدق مع الله، كما اختار سفارة من أبناء قريته هم الأجدر بهذه المهمة –جزاهم الله عنا وعن الإسلام خيرً.
وحتى بعد هجرته ﷺ لم ينس الضعفاء الذين تركهم في مكة ولم يقدر على إنقاذهم، وكذلك المحبوسين في سجون المشركين القاسية [حبسوا عياش بن أبي ربيعة وهشام بن العاص بن وائل السهمي في بيت لا سقف له إمعانًا في تعذيبهما]؛ فكان ﷺ يقنت ويدعو لهم عامة وبأسمائهم خاصة يقول: (اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة، اللهم أنج سلمة بن هشام، اللهم أنج الوليد بن الوليد، اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين، اللهم اشدد وطأتك على مضر، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف).
قيادة ناجحة
وإن قيادة على هذه الشاكلة من الرحمة بالمؤمنين والحرص عليهم والرأفة بهم؛ ما يدفع الجنود إلى البذل والعطاء، والتجرد والإخلاص، وفداء الدين بالمال والنفس والذرية. قيل إن أم سلمة (هند بنت أبي أمية) قد أبقاها المشركون في مكة بعدما انتزعوا منها ابنها وقد خلعوا يده، وفرقوا بينها وبين ابنها وزوجها حتى جمعهم الله بجوار النبي بعد عام من المعاناة. وقيل إن صهيًبا جُرِّد من ماله كله مساومة للحاق بمحمد وصحبه.
إن القيادة الناجحة هي التي تعلم أن مقامها مقام تكليف وليس مقام تشريف، تستوي عندها الشهرة مع الخمول، وعدم الذكر مع الظهور؛ فهي قيادة بسيطة ورعة، لا تتميز على صفها في شيء. لما نزل رسول الله ﷺ في بني عمرو بن عوف قام أبو بكر للناس وجلس رسول الله صامتًا؛ فطفق من جاء من الأنصار ممن لم ير رسول الله يحيي أبا بكر حتى أصابت الشمس رسول الله؛ فأقبل أبو بكر حتى ظلل عليه بردائه؛ فعرف الناس رسول الله ﷺ عند ذلك.
سلامة العقيدة أولًا
ثمة أمرٌ مهمٌ: أنه لن تقوم للمسلمين قائمة ولن يكون لهم بأسٌ إلا إذا صحت عقيدتهم وخلصت وجهتهم، بعيدًا عن النعرات والتمذهبات والأفكار القبلية والجهوية، ولن ينصلح حال آخرنا إلا بما انصلح به حال أولنا. إن عقيدة الإسلام هي التي أصلحت بين خصوم دامت عداوتهم لعقود ولأتفه الأسباب (وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا….) [آل عمران: 103]، وهي التي فتح الله بها للحق قلوبًا غلفًا، وأعينًا عميًا، وآذانًا صمًّا؛ فصارت هادية مهدية حتى غدا الأوسي والخزرجي –عدوا الأمس- أخوين متحابين متناصحين، متنافسين في كفالة أخيهما المهاجري أيهما يُقرع له يقاسمه بيته وماله وما يملك.
وإن هذه العقيدة هي التي قضت على الفساد والعبودية، وجعلت كرامة الناس ومقاماتهم بما حققوه من سبق وطاعة، وبما أخلصوا لله ورسوله لا بما يملكون من مال ووجاهة؛ ففي المجتمع الجديد، مجتمع ما بعد الهجرة، لا فرق بين عربي ولا عجمي، ولا أبيض ولا أسود، ولا سيد ولا عبد إلا بالتقوى والعمل الصالح، ولا كرامة لنسيب إلا بفضل الله عليه. ولا عجب إذًا أن يكون سالم مولى أبي حذيفة هو إمام المسلمين في المدينة قبل قدوم رسول الله ﷺ.
بين معجزات الأنبياء وكرامات الأولياء
قد يدَّعي البعض أن زمن المعجزات قد انتهى، وأن هذا نبي، وما حدث مع علي وفي الغار ومع سراقة ومع أم معبد لا يمكن أن يتحقق ثانية على يد بشر. أقول له: قد كذبت على الله وعلى رسوله؛ فإن كانت معجزات الأنبياء قد انتهت فإن كرامات الأولياء لم تنته، هذا وعد الله لا يخلف الله وعده، وما يعلم جنود ربك إلا هو. والمقام لا يتسع لإيراد الآيات والأخبار التي تتحدث عن ضمان نصرة الله لعباده الصادقين.
الأمر فقط يحتاج أن نكون ضمن زمرة أولياء الله، الذين (لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُون) [يونس: 62، 63]، وأن ندعو بما دعا به محمد ﷺ في بدء رحلة هجرته.. (وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَانًا نَّصِيرًا) [الإسراء: 80].