هذه مجموعة خواطر أقدمها للمسلمين عامة، وأخص منهم المهجرين من ديارهم وأموالهم، لعلها تكون لهم تسلية وعبرة وبشارة، سائلاً المولى سبحانه التوفيق والسداد.
الوطن الأصلي:
إن وطن الإنسان الأصلي هو الجنة، حيث كان أبونا آدم وأمنا حواء عليهما السلام، قال الله تعالى: (وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ) [البقرة: 35] وقد كان العدو الأول للإنسان (إبليس) هو المتسبب في إخراج آدم وحواء من الجنة وطنهما الأصلي، قال الله تعالى: (فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ ۖ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ۖ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَىٰ حِينٍ) [البقرة: 36] ولا يزال الشيطان يكيد لبني آدم حتى يفتنهم ويضلهم ويبعدهم بشكل نهائي عن دخول الجنة وطنهم الأصلي، قال تعالى: (يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ) [الأعراف: 27]. وحين تنقضي هذه الحياة الدنيا فإن مرجعنا –إن أطعنا ربنا- إلى وطننا الأصلي، فحياتنا على هذه الأرض هي نوع من الهجرة في الحقيقة.
حب الوطن من الفطرة:
الأصل في الإنسان أن يحب وطنه، ويتشبث بالعيش فيه ولا يفارقه، فحب الوطن غريزة متأصلة في النفوس تجعل الإنسان يستريح إلى البقاء فيه ويحن إليه إذا غاب عنه ويدفع عنه إذا هوجم، ويغضب له إذا انتقص، ومهما اضطر الإنسان إلى ترك وطنه فإن حنين الرجوع إليه يبقى معلقاً في ذاكرته لا يفارقه وإن كان غيره أكثر نفعاً له. فالتعلق بالأوطان والحنين إليها فطرة في النفوس لم ينكرها الإسلام، بل وجهها الوجهة الصحيحة التي تكون سببا لخدمة الدين وإعلاء رايته، فلا عجب إن بذل الإنسان الغالي والنفيس من أجل حماية وطنه والذود عنه، ولمَّا قدِم رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم المدينةَ اشتكى واشتكى أصحابُه واشتكى أبو بكرٍ وعامرُ بنُ فُهَيرةَ مولى أبي بكرٍ وبلالٌ فاستأذَنتْ عائشةُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في عيادتِهم فأذِن لها فقالت لأبي بكرٍ: كيف تجِدُكَ؟ فقال: كلُّ امرئٍ مُصبَّحٌ في أهلِه والموتُ أدنى مِن شِراكِ نَعلِه. وسأَلَتْ عامرَ بنَ فُهيرةَ فقال: إنِّي وجَدْتُ الموتَ قبْلَ ذَوْقِه إنَّ الجبانَ حتفُه مِن فوقِه. وسأَلَتْ بلالًا فقال: “ألا لَيْتَ شِعري هل أبيتَنَّ ليلةً بفَجٍّ وحولي إِذخِرٌ وجليلُ“. فأتَتْ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فأخبَرتْه بقولِهم فنظَر إلى السَّماءِ فقال: “اللَّهمَّ حبِّبْ إلينا المدينةَ كما حبَّبْتَ إلينا مكَّةَ وأشَدَّ اللَّهمَّ بارِكْ لنا في صاعِها ومُدِّها وانقُلْ وباءَها إلى مَهْيَعةَ” [رواه ابن حبان في صحيحه] ومهيعة وهي الجُحفةُ، فبلال رضي الله عنه كان يَتمنَّى أنْ يَبيتَ لَيلةً واحدةً في وادي مكَّةَ -مكة التي نشأ فيها وتربى على الرغم من أصله الحبشي-، ويُطفِئَ أشواقَه الحارَّةَ مِن مِياهِ مَجَنَّةَ -وهي: ماءٌ عندَ عُكاظٍ على أميالٍ يَسيرةٍ مِن مكَّةَ بناحيةِ مَرِّ الظَّهرانِ- وأنْ يُمتِّعَ ناظرَيْهِ بمُشاهَدةِ الإذْخِر والجَليلِ، وهما نَبْتانِ مِن الكلَأِ طَيِّبِ الرائحةِ يَكونانِ بمكَّةَ، وأنْ يُشاهِدَ شامةَ وطَفِيلًا، وهما جَبَلانِ مُتجاوِرانِ جَنوبَ غرْبِ مكَّةَ.
واقترن حب الوطن بحب النفس، فكلاهما متأصل في نفس الإنسان عزيز عليه، لذا كان الإخراج من الديار –ولو كان فريضة- مساوٍ لقتل النفس، قال الله تعالى: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ) [النساء: 66]
الإخراج من الديار هو دأب المفسدين:
كما حرص إبليس على إخراج آدم وحواء عليهما السلام من سكنهم الجنة، فإن أتباعه يحذون حذوه ويتبعون منهجه وأساليبه، فقد أخرج المفسدون في الأرض كثير من الأنبياء والمصلحين من ديارهم بغير حق، قال تعالى: (وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنفُسَكُم مِّن دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنتُمْ تَشْهَدُونَ . ثمّ أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِّنكُم مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِم بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِن يَأْتُوكُمْ أُسَارَىٰ تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ) [البقرة: 84-85].
وبعدما نزل الوحي على النبي صلى الله عليه وسلم أول مرة وشاهد جبريل عليه السلام،”رجع إلى خديجة رضي الله عنها يرجف فؤاده، فانطلقت به إلى ورقة بن نوفل، وكان رجلا تنصر ، فقال ورقة: ابن أخي ماذا ترى؟ فأخبره، فقال ورقة: هذا النَّامُوسُ الذي أُنْزِلَ علَى مُوسَى، يا لَيْتَنِي فِيهَا جَذَعًا، أكُونُ حَيًّا حِينَ يُخْرِجُكَ قَوْمُكَ، فَقالَ رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: أوَمُخْرِجِيَّ هُمْ؟ فَقالَ ورَقَةُ: نَعَمْ؛ لَمْ يَأْتِ رَجُلٌ قَطُّ بمِثْلِ ما جِئْتَ به إلَّا عُودِيَ، وإنْ يُدْرِكْنِي يَوْمُكَ أنْصُرْكَ نَصْرًا مُؤَزَّرًا. [رواه البخاري] وبعدما أخرجه قومه قال النبي صلى الله عليه وسلم عند هجرته من بلده التي يحب مكة: “ما أطيبك من بلد، وما أحبك إلي، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنت غيرك” [رواه الترمذي برقم 2724].
واقترن حب الوطن مع التمسك بالدين، فالبر والعدل مأمور بهما لمن لم يقاتل المسلم على دينه، أو يخرجه من بلده، وفيه دليل على مكانتها في الدين وفي نفس الإنسان، قال الله تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8].
الله تعالى ناصرٌ قضايا المهجرين:
وعد الله تعالى المهجرين من ديارهم بتكفير سيئاتهم وبدخول جناته ثوابا من عنده، قال تعالى: (فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِّنْ عِندِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) [آل عمران: 195]، ولم يقتصر ثوابهم لهم على ما يجدونه في الآخرة، بل وعدهم حسن الثواب في الدنيا أيضا، قال تعالى: (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ۖ وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ۚ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ) [النحل: 41]، وقال: (ومَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً ۚ وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا) [النساء: 100] وفي معنى مراغما قال البقاعي في نظم الدرر: أي مهربا ومذهبا ومضطربا يكون موضعا للمراغمة يغضب الأعداء به ويرغم أنوفهم بسبب ما يحصل لهم من الرفق وحسن الحال. من الرغم: وهو الذل والهوان، وأصله من لصوق الأنف بالرغام وهو التراب، تقول: راغمت فلانا أي هجرته وهو يكره مفارقتك لذلة تلحقه بذلك. ولما كانت المراغمة لذة الروح، فكانت أعز من لذة البدن فقدمها، أتبعها قوله (وسعة) أي في الرزق.
وفي الختام نقول للمهجرين اللاجئين والنازحين عن ديارهم وأموالهم، لا تبتئسوا بل أبشروا بتأييد الله لكم وبحسن الثواب في الدارين، فاصبروا واحتسبوا فإنكم على نهج الأنبياء تسيرون، واعلموا أن العاقبة للمتقين.