الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده..
فإن الهجرة ليست فراراً بالدين وهروباً من الأعداء، بل هي معركة والله عز وجل ذكرها كموقعة حربية تقتضى نصر أو هزيمة وأخبرنا عن نتائجها ومآلاتها فقال تعالى: { إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40].
وهذا هو الموضع الصريح الوحيد في القرآن الذي يحدثنا عن الهجرة في أصعب لحظاتها.
فقد ذكرت الآية كلمة النصر وكلمة الذين كفروا مرتين، وكلمة الجند ذكرت مرة، وكلمة الإخراج وكلمة الغار مرة وقضى بالسكينة وعدم الحزن وسفول كلمة الكفر وأهله وعلو كلمته.
كل هذه المفاهيم والمصطلحات تدل على أنها معركة ومعركة عالمية وفاصلة وإعلان حرب على الطاغوتية بكل أشكالها وصورها لتكون كلمة الله هي العليا بجعل كلمة الذين كفروا السفلى.
التأريخ بالنصر:
الهجرة ليست فراراً بالدين ولا هروباً من الأعداء، ولكنها الإعداد والحرب والنصر..
وهذا المعنى هو الذي لمحه الملهم والمحدث الفاروق عمر حينما جعل الهجرة بداية للتأريخ الإسلامي فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال: «قَدِمَ النبيُّ r المدينةَ فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء، فقال: “مَا هَذَا؟” قالوا: هذا يومٌ صَالِح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوِّهم فصامه موسى، قال: “فَأَنَا أَحَقُّ بِمُوسَى مِنْكُمْ”. فَصَامَهُ وَأَمَرَ بِصِيَامِهِ» متفق عليه.
فالفاروق عمر رضي الله عنه، هاجر علانية وجهارا وليس سراً ولا خفاء، وكم حدثته نفسه بأشياء فنزل القرآن بها فكثيرة موافقته للوحي.
ولما كتب إليه أبو موسى الأشعري “إنه يأتينا من قبل أمير المؤمنين كتب لا ندرى على أيها يعمل، قد قرأنا صكا منه محله شعبان، فما ندرى أي الشعبانين، الماضي أم الآتي؟ فرأى أن الأشهر الحرم تقع حينئذ في سنتين، فجعله من المحرم وهو آخرها فصيره أولا لتجتمع في سنة واحدة” وفي رواية أنه «َاسْتَشَارَ الصَّحَابَة فِي ذَلِك، فَقَالَ بَعضهم: أرخ لمبعث رَسُول الله صلى الله عليه وسلم. وَقَالَ بَعضهم: لوفاته. فَقَالَ عمر: بل نؤرخ لمهاجر رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، فَإِن مهاجره فرق بَين الْحق وَالْبَاطِل، فأرخ لذَلِك. وَاخْتلفُوا بِأَيّ شهر يبدؤون، فَقَالَ عُثْمَان: أَرخُوا الْمحرم أول السّنة». ([1]).
لقد كان رأياً واجتهاداً من الفاروق عمر رضي الله عنه، ومن ذي النورين الشهيد سيدنا عثمان بن عفان وبمشورة الصحابة. «وقد روى البخاري (في الصحيح: باب التاريخ من أين أرخوا؟) بسنده عن سهل بن سعد قال: “ما عدّوا من مبعث النبي صلى الله عليه وسلم، ولا من وفاته ما عدُّوا إلا من مقدمه المدينة” وقال الحافظ ابن حجر: “وإنما أخروه – التاريخ – من ربيع الأول إلى المحرم لأن ابتداء العزم على الهجرة كان في المحرم إذ البيعة وقعت في أثناء ذي الحجة وهي مقدمة الهجرة فكان أول هلال استهل بعد البيعة والعزم على الهجرة هلال المحرم فناسب أن يجعل مبتدأ. وهذا أقوى ما وقفت عليه من مناسبة الابتداء بالمحرم” ([2])
فأنت ترى أن الصحابة وعلى رأسهم عمر رضي الله عنه، عدوا الإعداد للهجرة هجرة، كما كان الإعداد لها كالإعداد للحرب، كما أنهم تأسوا بالقرآن بجعلها يوم النصر يرتبط بها تاريخ الأمة لتخليد هذا النصر ولتجديد العهد بالإعداد لهذا الظفر.
والأمم كلها تجعل أعيادها مرتبطة بنصر عظيم أو فتح مبين، وقد جمعت الهجرة كل ذلك وزادت بأنها كانت سلماً على كل طالب حق وحرباً على كل ظالم طاغوت متجبر مراده الفساد والشر.
كما أن قول النبي صلى الله عليه وسلم، “نحن أولى بموسى منهم” جعل سيدنا عمر ومعه الصحابة يؤكدون على معنى الانتصار بهلاك الطاغوت فرعون، وانتصار سيدنا موسى ونجاته لأن الدين عند الله الإسلام والأنبياء إخوة ونصرهم نصرنا.
ومن أوجه التشابه بين النصر في معركة الهجرة وبين النصر في معركة الخروج لسيدنا موسى عليه السلام وهلاك فرعون ما يلي:
– التأسيس والمنعة: لقد كان أول نصر تأسيس مسجد تصدح فيه كلمة التوحيد بالتكبير، بعد الخفاء في دار الأرقم والاضطهاد في مكة، خوفاً من إظهار شعائر الإسلام وتلاوة القرآن وإقامة الصلاة.
فإن إظهار الشعائر نصر وأي نصر والصدع والصدح بكلمة التكبير، إنما هي رسالة تتجدد مع كل أذان وتذكير بالعهد والمهمة، الله أكبر الله أكبر الله أكبر «لا تضطربوا؛ هذا هو النظام. لا تنحرفوا؛ هذا هو النهج. لا تتراجعوا؛ هذا هو النداء. لن يكبر عليكم شيء ما دامت كلمتكم: الله أكبر» ([3]).
فمن التشابه بين الفرح بالنصر لهلاك فرعون ونجاة سيدنا موسى، وبين جعل ذلك التاريخ المتناسب والمتناغم مع بداية الهجرة ببيعة الأنصار وبلوغ النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وتأسيسه دولة التوحيد من أول يوم للهجرة كما قال ابن عاشور: « اسْتِنْبَاطُ عُمَرَ ابْتِدَاءَ التَّارِيخِ بِيَوْمِ الْهِجْرَةِ، مِنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: (لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ )[التَّوْبَة: 108] فَإِنَّ الْمَعْنَى الْأَصْلِيَّ أَنَّهُ أُسِّسَ مِنْ أَوَّلِ أَيَّامِ تَأْسِيسِهِ ..وَمِنْ جَلِيلِ الْمَنَازِعِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ مَا فِيهَا مِنْ حُجَّةٍ لِصِحَّةِ آرَاءِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ جَعَلُوا الْعَامَ الَّذِي كَانَ فِيهِ يَوْمُ الْهِجْرَةِ مَبْدَأَ التَّارِيخِ فِي الْإِسْلَامِ. وَذَلِكَ مَا انْتَزَعَهُ السُّهَيْلِيُّ فِي «الرَّوْضِ الْأُنُفِ» فِي فَصْلِ تَأْسِيسِ مَسْجِدِ قُبَاءَ إِذْ قَالَ: «وَفِي قَوْلِهِ I: (مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ) (وَقَدْ عُلِمَ أَنَّهُ لَيْسَ أَوَّلَ الْأَيَّامِ كُلِّهَا وَلَا أَضَافَهُ إِلَى شَيْءٍ فِي اللَّفْظِ الظَّاهِرِ فِيهِ) مِنَ الْفِقْهِ صِحَّةُ مَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ الصَّحَابَةُ رضوان الله عليهم، مَعَ عُمَرَ حِينَ شَاوَرَهُمْ فِي التَّارِيخِ، فَاتَّفَقَ رَأْيُهُمْ أَنْ يَكُونَ التَّارِيخُ مِنْ عَامِ الْهِجْرَةِ لِأَنَّهُ الْوَقْتُ الَّذِي عَزَّ فِيهِ الْإِسْلَامُ وَأَمِنَ فِيهِ النَّبِيءُ r فَوَافَقَ هَذَا ظَاهِرَ التَّنْزِيلِ» ([4]).
– وكذلك فإن سيدنا موسى uعليه السلام، خرج ولم يتركه فرعون بل تبعه بغياً وعدواناً، وكان في استطاعته أن يتركه لأنه خرج وترك له المصر كله، لكنه الجبروت والطغيان يريد أن يقتله ويفتك بمن معه.
وكذلك فعلت قريش خرج النبي صلى الله عليه وسلم، وكان بإمكانهم أن يتركوه لأنهم استراحوا من الصراع معه، ولكنهم كابروا وقرروا قتله في فراشه فلما لم يجدوه خرجوا ورائه بغياً وعدواناً، بل ورصدوا الجوائز ليحكموا قبضتهم.
– بل إن النبي صلى الله عليه وسلم في هجرتي الحبشة، مكث في مكة يواجه الطغيان والظلم والكفر وطواغيته، ويخاطر بنفسه لنجاة أصحابه وفي الهجرة إلى المدينة أرسلهم وظل هو حتى أطمأن عليهم فكان آخرهم خروجاً وأطولهم مكوثاً في مواجهة الطغيان.
وذلك لأن الهجرة في زمن سيدنا موسى وسيدنا محمد عليهما الصلاة والسلام معركة، والقائد الصادق يديرها وهو في قلبها، بل ويتحكم في سيرها.
ولا نشك أن سيدنا موسى لما قيل له {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ} [الشعراء: 61 – 63] [الشعراء: 61-63]
لا نشك لحظة أنه لما ضرب بعصاه البحر كان في المقدمة، وأن البحر لما انفلق لم يتقدم، بل تأكد من سلامة قومه ونجاتهم فكان في المقدمة بالضرب لنجاتهم، وكان راعياً لهم محافظاً على سلامتهم فخرج بعدهم.
فتشابه حال سيدنا محمد مع سيدنا موسى عليهما الصلاة والسلام في كونهما أول المضحين بأنفسهم الغارمين، وآخر المغادرين لساحة المعركة بالنصر ونجاة قومهم ونجاح دعوتهم.
لا ليلقوا عصا الترحال وإنما ليمحضوا أرضاً جديدة بتوحيد الله والرحمة بخلقه.
فالهجرة كانت وستظل حركة متجددة وسنة إلهية ربانية متكررة، تسعى بالإيمان والعمل الصالح، والتوحيد والإصلاح، والسعي والوعي، واليقين والممارسة لتكون كلمة الله هي العليا.
الهجرة والجهاد لتكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا:
جاء في القرآن الكريم في معرض الحديث عن الهجرة قول الله تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ} [التوبة: 40] وورد في الحديث المتفق عليه عن النَّبِيِّ قال: «مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ».
إذن قمع الذين يحادون الله ورسوله وإذلالهم وجعل كلمتهم السفلى من مقاصد التوحيد العظمى، بل إن النفي لألوهية غير الله في كلمة التوحيد جاء مقدماً على إثبات ألوهية الله بالحق ونظير هذا قوله تعالى: {فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} [البقرة: 256]
وكما قيل التخلية قبل التحلية لأن قهر الباطل وزواله علو للحق.
فالغرض من الجهاد والهجرة هي جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.
وهذا ما اشترك فيه جهاد هجرة سيدنا موسى عليه السلام مع جهاد هجرة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فقد نصرهما الله بجعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم.
ولقد كانت الهجرة النبوية ذات خصائص متفردة جعلت أجرها لا يساويه شيء حتى قال صلى الله عليه وسلم «لَوْلَا الْهِجْرَةُ لَكُنْت امْرَأً مِنْ الْأَنْصَارِ» «فالهجرة التي لا يجوز تبديلها في حق الدين، ولا يسعه العود فيها، إذ كان عليه التمسك بها واجبا والنسبة إليها واجبة لازمة، والنسبة للهجرة دينية لا تترك، فخصوصيتها ومرتبتها سبقت، وعلت؛ فهي أعلى وأشرف، فلا تُبدل بغيرها، ولا ينتفي منها من حصلت له، ولا رُتبةَ بعد الهجرة أعلى مَنْصِبًا من النصرة» ([5]).
فالهجرة أمر ديني إلهي ثابت وسنة إلهية متجددة وهي قرينة الجهاد كما في الحديث: (الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ، وَالْمُهَاجِرُ مَنْ هَجَرَ الْخَطَايَا وَالذَّنُوبَ) رواه الترمذي.
وهي تسير مع الجهاد جنباً إلى جنب إلى يوم القيامة، وتبقى الهجرة ما بقي الجهاد، (فالجهاد ماض إلى يوم القيامة) كما صح بذلك الحديث؛ فإن باب الهجرة سيظل مفتوحا للتصدي للأعداء المعتدين أو لاعتزال فتنة الكافرين وإضلالهم، ولهذا ثبت في الحديث أنه: (لَا تَنْقَطِعُ الْهِجْرَةُ مَا قُوتِلَ الْعَدُوُّ) رواه النَّسائي.
الهجرة حدث فوق الشبهات والمطاعن:
ومن خصائص الهجرة أنها فوق الشبهات والطعن فإن التجهيز لها والتدريب عليها وخروج الصحابة في هجرتي الحبشة الأولى والثانية، ثم الهجرة إلى المدينة وما وقع قبلها وأثنائها وبعدها كل ذلك لم يجد فيه مثيري الشبهات أي مطعن فإن الحاقدين من المستشرقين وأصحاب المذاهب المستوردة والأفكار المعلبة ومرددي الشبهات من الطواغيت وأصحاب الشهوات لم نجدهم يذكرون الهجرة في طعنهم الذي توجهوا به للإسلام في قرآنه وسنته وسيرة النبي الأكرم وبالجملة القرآن بنصوصه وأحكامه وتراثه.
ولكن ما الذي جعلهم يمسكون عن الهجرة وهم دائماً ما يصطادون في الماء العكر؟
فيما يبدو أن الذي جعلهم يمسكون أن الهجرة خلت من كل شبهة أو شهوة بشرية أو مادية.
فإننا لو عرض على آحاد الناس السفر إلى بلد غير بلده للدراسة أو للعمل فإن أو سؤال يسأل عنه هو أين سأسكن..؟ ومن أين سأنفق..؟ وإن كان المعروض عليه هو العمل سيقول كم راتبي..؟ وهل لي إجازات أزور فيها أهلي؟ وهل السكن قريب من العمل؟
وهذه كلها أسئلة مشروعة ومطلوبة، بل وواجب سؤالها على من عُرض عليه السفر.
لكن في حال الصحابة المهاجرين لم يخطر على بالهم السؤال لأنهم تركوا ديارهم وأموالهم طاعة لأمر الله ورسوله خرجوا وكل شيء بالمقياس البشري مجهول لديهم لكنه بمقياس الإيمان معلوم وهذا هو التوحيد لله والاستسلام له والتوكل عليه والثقة فيه وهذه هي الأسوة في رسول الله r والمتابعة له وتصديقه في كل ما جاء به.
لقد أخرست “الهجرة النبوية” ألسنة كل طاعن فكانت معجزة في أحداثها كما أنها معجزة في كونها قد جعلت بأمر الله “كلمة الذين كفروا السفلى” حتى كلمة مثيري الشبهات والطاعنين في ديننا.
ومما يؤكد أن الهجرة إعداد وجهاد ومعركة ونصر أنها كانت في ماضي اليهودية والنصرانية هروب إلى الأمام بالعزلة وترك للناس يفترسهم الكفر والظلم والضلال والطغيان، فجاءت هجرة الرسول صلى الله عليه وسلم لتصحيح المسيرة ولإصلاح ما أفسده القوم بتركهم الدعوة وإثارهم العزلة.
وقد سبق الهجرة إلى المدينة التمهيد بالتجربة الدعوية للسنة الإلهية التي كانت الهجرة أحد أهم صورها في حياة الأنبياء والمرسلين.
فكانت هجرة لا إلى أطراف المدن والصحاري في المعابد، بل هجرة إلى العمق في قلب الأحداث عند ملك لا يظلم عنده أحد.
مما يدل على أنها حركة وإعداد وتدريب، بل معركة وجهاد سياسي اضطرت معه قريش أن تبعث من ينوب عنها لطلب تسليمهم ليدخل الصراع في دائرة العالمية خروجاً من ضيق شعاب مكة في طغيانها وظلمها.
فكانت التجربة في هجرات متتالية إلى الحبشة لأن المقصد الحقيقي الإصلاح الشامل برفع ظلم الشرك وظلمات الكفر وطغيان المستبدين واستنقاذ المستضعفين.
فليس الهروب ولا حتى الاجتهاد في بلوغ النجاة أو السعي إليهما كان مراداً من الهجرة.
وتكرار الهجرة إلى الحبشة مع بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في مكة يواجه طغيان الكفر والعناد دليل على أنها معركة وإعداد وكر وجهاد، الغرض منه النصر بإعلان الحرب على الشرك والباطل والشر والفساد والطغيان، ولن تتوقف إلى يوم القيامة وحتى نزول عيسى بن مريم u ليكسر الصليب ويقتل الخنزير..
كانت الهجرة قراراً خطيراً، بل هي أخطر قرار يأخذه قائد على الإطلاق لأن الجهاد شرع لحفظ البيضة أي الأرض أو الوطن والأهل من زوجة وأبناء وعرضهم وأموالهم بعد الدين، والهجرة كانت تعالي على ذلك كله والتضحية به (أي الجهاد) من أجل الدين والدين فقط، لهذا كان إعلان العداوة مع الكون كله قرار أخطر من الجهاد والقتال، لأنه لم يبق لعدوه ما يفاوض عليه من أهل وأرض أي وطنا أو مالا أو عرضا.
لأنها مقصدها من أخطر المقاصد، بل هو المقصد الذي تنبني عليه كل مصالح العباد ومقاصد الشريعة لتعظيم الخالق والرحمة بالخلق لتكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا.
إنه قرار ميلاد أمة وفرض واقع جديد والظرف التاريخي للهجرة النبوية على صاحبها الصلاة والسلام وعلى صحبه الرضوان يخبرنا أن العالم كان بين قوتين مهيمنتين الفرس والروم يتقاسمان قبائل الجزيرة العربية من حيث الولاء والحراسة حتى أن كسرا وقيصر استدعيا من يأتيهم بخبر محمد عليه الصلاة والسلام بل طمع احدهم بأن يجلبه له ليمثل بين يديه عنوة لو أبى الذهاب والهجرة إليه، وهو ما جعل الهجرة ليست إلا عملاً عدائيا للجميع شرقا وغربا وهو أخطر من عداوة أهل الجزيرة والقبائل ومن قلبهم قريش وغيرها من القبائل ونصارى ويهود حين ذاك وإلى يوم القيامة.
والقرآن نزل ليصيغ الكون بحكمه ويصبغه بصبغته ويسلب كل الطغاة مكانتهم ويحطم كل الأصنام وخاصة في القلوب لهذا كانت الهجرة إعلان حرب ونصر وليست فراراً أو هروبا أو سعياً للنجاة.
لقد كانت الهجرة حدث عالمي سبقه الخروج من مكة إلى الحبشة، وسمعت به فارس والروم، وهذا الحدث العظيم والنصر المبين كان من تقدير الله العزيز العليم أن من مكن له وساعد على إنجاحه هم أعداء الرسل وهم اليهود وكان ذلك بدعايتهم إليه وتعريف قبائل المدنية أوسهم وخزرجهم به، وبل ونشر خبره بالشام، والعراق، وبلاد فارس، والروم.
فإن انتشار اليهود بالجزيرة العربية والشام وهم أرباب الدعاية والإعلان وهو ما كان من وسائلهم الخادمة لمهنهم وحرفهم من الربا وصناعة السلاح وغيره وانتظارهم لنبي يبعث منهم فيدين لهم به العالم وقبيل الهجرة لم يكونوا إلا خدم وعبيد عند القوتين العالميتين آنذاك والتي بالطبع كانتا متحفزتين لتهديد اليهود، وفى حالة عداء للنبي المنتظر قبل بعثته وربما قبل ميلاده وهو مما جعل الهجرة النبوية من أكبر المعارك وأعظم الانتصارات، وقال تعالى عنهم: ((وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُم مَّا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ ۚ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُوا بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَن يُنَزِّلَ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ عَلَىٰ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ۖ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَىٰ غَضَبٍ ۚ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ )) [البقرة: 90].
إن الهجرة تنفي عن الإسلام قبول التبعية، ولا يصلح أن يقام وهو تابع، بل إن الإسلام بشعائره وشرائعه وأحكامه ومقاصده أنزله الله لتكون كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا والله عزيز حكيم.
يا نبيَّ الله!!
إنّ الإسلامَ قد قَعَدَ به أَهْلُه، والزمنُ بالناس يعدُو، والحياةُ في العالم فكْرٌ يتحقَّق، وهي عندنا حُلُمٌ يَتبدَّد، هذه أُمَّتُك تملأ الأرْض، ولكن قد فرغت قلوبها من الإيمان، والإيمانُ في دِينك قولٌ وعملٌ، كانت به المعجزةُ الإسلامية، ولكنه عندنا قولٌ وجدَلٌ، تكون به الفُرقةُ الجاهليّة.
فاللهمَّ هِجْرةً كهجرَةِ نبيِّكَ بالعزِم والإيمان
اللهمَّ جهادًا كجهادِهِ يُجدِّد القلوبَ والأوطان» ([6])
[1])«الأوائل للعسكري» (ص151) كشف المشكل من حديث الصحيحين (2/ 284)
[2]) «صحيح البخاري» (3/ 1431 ت البغا): «77 – باب: التاريخ، من أين أرخوا التاريخ» فتح الباري 8/ 270
[3]) وحي القلم (1/ 287)
[4]) التحرير والتنوير (1/ 96) و(11/ 32)
[5]) أعلام الحديث (3/ 1759) شرح مسند الشافعي (3/ 432) العدة في شرح العمدة في أحاديث الأحكام لابن العطار (2/ 825) المفاتيح في شرح المصابيح (6/ 345)
[6]) جمهرة مقالات محمود شاكر (1/ 94)