جاء في كلمة رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي وصف الصحابي الجليل أبي موسى الأشعري (رضي الله عنه) بخيانة علي بن أبي طالب (رضي الله عنه)، ويشير بذلك إلى ما يتناقله أعداء الصحابة أهل الظلم والتعصب، من أنَّ أبا موسى الأشعري (رضي الله عنه) خان علي بن أبي طالب (رضي الله عنهما) في حادثة التحكيم التي وقعت في معركة صفّين، معتمدين على الروايات الضعيفة والموضوعة، تاركين وراء ظهورهم ما اشتهر به الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري (رضي الله عنه) من العلم والفضل والتقى والورع، إذ يشهد على ذلك ما تواتر من أخبار تاريخية وروايات صحيحة تدحض تلك الافتراءات المختلقة، والأكاذيب الباطلة، بحق هذا الصحابي الكريم المعروف بعلمه وورعه وحيائه وجهاده وعبادته، وعزة نفسه، وزهده في الدنيا، والثبات على الإسلام، بل هو معدود من كبار علماء الصحابة وفقهائهم ومُفتيهم، كما سيأتي بيانه.
وتَقَدّم في خمسة مقالات سابقة تفصيل الكلام حول حادثة التحكيم ورفع المصاحف والخطبة النبوية في غدير خم، ولكن في هذا المقال سنتناول سيرة هذا الصحابي الكريم – الذي حاول رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي تشويهها والنيل منها- ومناقبه، وحياته زمن النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين الأربعة (رضوان الله عليهم أجمعين).
1- اسمه وكنيته وإسلامه:
هو عبد الله بن قيس بن حضّار بن حرب، الإمام الكبير، صاحب رسول الله ﷺ، أبو موسى الأشعري التميمي الفقيه المُقري. (سير أعلام النبلاء، 2/381)
وقد أسلم أبو موسى بمكة قديماً؛ قال ابن سعد: قدم مكة فحالف سعيد بن العاص، وأسلم قديماً وهاجر إلى أرض الحبشة، وتذكر بعض الروايات بأنه رجع إلى قومه للدعوة إلى الله. وقد جمع ابن حجر بين الروايات في إسلامه فقال: وقد استشكل ذكر أبي موسى فيهم، لأن المذكور في الصحيح أن أبا موسى خرج من بلاده هو وجماعة قاصداً النبي ﷺ بالمدينة، فألقتهم السفينة في أرض الحبشة، فحضروا مع جعفر إلى النبيﷺ بخيبر.. ويمكن الجمع بأن يكون أبو موسى هاجر أولاً إلى مكة فأسلم، فبعثه النبي ﷺ مع من بعث إلى الحبشة، فتوجه إلى بلاد قومه، وهم مقابل الحبشة من الجانب الشرقي، فلما تحقق استقرار النبي ﷺ وأصحابه بالمدينة هاجر هو ومن أسلم من قومه إلى المدينة، فألقتهم السفينة لأجل هيجان الريح من الحبشة، فهذا محتمل وفيه جمع بين الأخبار فليعتمد.
2- أوسمة الشرف التي وضعها رسول الله ﷺ على صدر أبي موسى:
أ ـ لكم الهجرة مرتين، هاجرتم إلى النجاشي، وهاجرتم إليَّ:
عن أبي موسى، قال: خرجنا من اليمن في بضع وخمسين من قومي، ونحن ثلاثة إخوة: أنا، وأبو رهْم، وأبو عامر. فأخرجتنا سفينتنا إلى النَّجاشي، وعند جعفر وأصحابه، فأقبلنا حين افتُتِحَت خيبر، فقال رسول الله ﷺ: «لكم الهجرة مرتين: هاجَرتم إلى النَّجاشي وهاجرتم إليَّ»، وعن أنس، قال: قال رسول الله ﷺ: «يقدم عليكم غداً قوم هم أرق قلوباً للإسلام منكم». فقدم الأشعريون؛ فلما دنوا جعلوا يرتجزون:
غداً نلقى الأحبة محمداً وحزبه فلما قدموا تصافحوا، فكانوا أول من أحدث المصافحة. (سير أعلام النبلاء، 2/384)
ب ـ هم قومك يا أبا موسى:
عن عياض الأشعري، قال: لما نزلت: ﴿فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ﴾ [المائدة: 54]. قال رسول الله ﷺ: «هم قومك يا أبا موسى»، وأوْمأ إليه.
ج ـ اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخله يوم القيامة مدخلاً كريماً:
عن أبي موسى قال: لما فرغ رسول الله ﷺ من حنين، بعث أبا عامر الأشعري على جيش أوطاس، فلقي دُرْيد بن الصُّمة فقتل دريد، وهزم الله أصحابه؛ فرمى رجل أبا عامر في ركبته بسهم فأثبته. فقلت: يا عمّ، مَنْ رماك؟ فأشار إليه. فقصدت له، فلحقته، فلما رآني، ولَّى ذاهباً، فجعلت أقول له: ألا تستحي؟ ألست عربياً؟ ألا تثبت؟ قال: فكفَّ، فالتقيت أنا وهو، فاختلفنا ضربتين، فقتلته. ثم رجعت إلى أبي عامر، فقلت: قد قتل الله صاحبك. قال: فانزع هذا السهم فنزعته فنزا منه الماء. فقال: يا بن أخي، انطلق إلى رسول الله ﷺ فأقرئه مني السلام، وقل له: يستغفر لي. واستخلفني أبو عامر على الناس، فمكث يسيراً، ثم مات. فلما قدمنا، وأخبرتُ النبي ﷺ، توضَّأ، ثم رفع يديه، ثم قال: «اللهم اغفر لعُبيد بن أبي عامر»، حتى رأيت بياض إبطيه. ثم قال: «اللهم اجعله يوم القيامة فوق كثير من خلقك» فقلت: ولي يا رسول الله؟ فقال: «اللهم اغفر لعبد الله بن قيس ذنبه، وأدخلهُ يوم القيامة مدخلاً كريماً».
د ـ إن هذا قد ردَّ البُشرى فاقبلا أنتما:
عن أبي موسى، قال: كنت عند رسول الله ﷺ بالجعرانة، فأتى أعرابي فقال: ألا تُنجـزُ لي ما وعدتني؟ قال أبشر: قال: قـد أكثرت من الـبشرى. فأقبـل رسول الله ﷺ عليَّ وعلى بلال. فقال: «إنّ هذا قد ردَّ البُشْرى فاقبلا أنتما». فقالا: قبلنا يا رسول الله. فدعا بقدح، فغسل يديه ووجهه فيه، ومجّ فيه، ثم قال: «اشرَبَا منه وأَفْرِغَا على رؤوسِكُما ونُحُوركما» ففعلا؛ فنادت أم سلمـة من وراء الستر: أن فَضِّلا لأُمِّكُمَا، فأفضلا لها منه.
هـ لقد أعطي مزماراً من مزامير آل داود:
عن ابن بريدة عن أبيه قال: خرجت ليلة من المسجد، فإذا النبي ﷺ عند باب المسجد قائم، وإذا رجل يصلي، فقال لي: «يا بريدة، أتراه يُرائي؟» قلت: الله ورسوله أعلم. قال: «بل هو مؤمن منيب، لقد أعطي مزماراً من مزامير آل داود». فأتيته فإذا هو أبو موسى الأشعري؛ فأخبرته.
و ـ يا عبد الله بن قيس ألا أدُلُّك على كلمة من كنوز الجنة:
عن أبي موسى الأشعري قال: كنا مع النبيﷺ في سفر، وكان القوم يصعدون ثنية أو عقبة، فإذا أصعد الرجل قال: لا إله إلا الله، والله أكبر ـ أحسبه قال: بأعلى صوته ـ ورسول الله ﷺ على بغلته يعترضها في الجبل، فقال: «أيها الناس، إنكم لا تُنادون أصمَّ ولا غائباً». ثم قال: يا عبد الله بن قيس – أو يا أبا موسى – ألا أدُلُّكَ على كلمة من كُنوُز الجنة؟ قلت: بلى يا رسول الله. قال: «قل: لا حول ولا قوة إلا بالله».
ز ـ يَسّرا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تُنفرا:
استعمل رسول الله ﷺ أبا موسى على زبيد وعدن، وأرسله مع معاذ إلى اليمن، فعن أبي موسى: أن النبي ﷺ لما بعثه ومعاذاً إلى اليمن، قال لهما: «يَسِّرَا ولا تعسرا، وتطاوعا ولا تُنفرا»، فقال له أبو موسى: إنا لنا بأرضنا شراباً، يُصنعُ مع العسل يقال له: البَتْع، ومن الشعير يقال له: المِزْرُ، قال: «كلُّ مسكر حرام»، فقال لي معاذ: كيف تقرأ القرآن؟ قلت: أقرأه في صلاتي، وعلى راحلتي، وقائماً وقاعداً، أتفوَّقُه تفوُّقاً، يعني شيئاً بعد شيء، قال: فقال معاذ: لكني أنام ثم أقوم، فأحتسب نومتي كما أحتسب قومتي، قال: وكأن معاذاً فُضل عليه. (تحقيق مواقف الصحابة، 2/226).
3- مكانة أبي موسى عند عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ما:
كان أبو موسى من ضمن أعمدة الدولة في عهد عمر، وكان قائداً للجيوش في فتح قم وقاثان، وموقعة تستر، كما كان من مؤسسي المدرسة البصرية في عهد الفاروق، وكان يعد من أعلم الصحابة، وقد قدم البصرة، وعلّم بها (تفسير التابعين، 1/423)
وقد تأثر بعمر بن الخطاب (رضي الله عنه) ما، وكان بينهما مراسلات، وكان أبو موسى (رضي الله عنه) قد اشتهر بالعلم والعبادة والورع والحياء، وعزة النفس وعفتها، والزهد في الدنيا والثبات على الإسلام، ويعد أبو موسى (رضي الله عنه) من كبار علماء الصحابة وفقهائهم ومفتيهم، فقد ذكره الذهبي في (تذكرة الحفاظ) في الطبقة الأولى من الصحابة (رضي الله عنه) . (البداية والنهاية، 7/114)
كان عالماً عاملاً صالحاً تالياً لكتاب الله، إليه المنتهى في حسن الصوت بالقرآن، روى علمـاً طيباً مباركـاً، أقرأ أهل البصرة وأفقههم، وقـد كان (رضي الله عنه) كثير الملازمة للنبي ﷺ، كما أنه تلقى من كبار الصحابة كعمر وعلي وأُبَيّ بن كعب وعبد الله بن مسعود، وتأثر أبو موسى على وجـه الخصوص بعمر بن الخطاب كثيراً، وكان عمر يتعهدهُ بالوصايا والكتب في أثناء ولايته الطويلـة على البصرة، كما أن أبا موسى كان يرجع إلى عمر في كل ما يعرض لـه من القضايا، حتى عده الشعبي واحداً من أربعة قضاة، هم أشهر قضاة الأمة، فقال: قضاة الأمة: عمر، وعلي، وزيد بن ثابت، وأبو موسى.
واشتهر أبو موسى بين الصحابة بجمال صوته، وحسن قراءته، فكان الناس يجتمعون عليه حين يسمعونه يقرأ، وكان عمر (رضي الله عنه) إذا جلس عنده أبو موسى طلب منه أن يقرأ له ما يتيسر له من القرآن، وقد وفقه الله لتعليم المسلمين، وبذل (رضي الله عنه) كل ما يستطيع من جهد في تعليم القرآن ونشره بين الناس في كل البلاد التي نزل فيها، واستعان بصوته الجميل وقراءته الندية فاجتمع الناس عليه، وازدحم حوله طلاب العلم في مسجد البصرة، فقسمهم إلى مجموعات وحِلق، فكان يطوف عليهم يُسمعهم ويستمع منهم ويضبط لهم قراءتهم، فالقرآن الكريم شغله الشاغل (رضي الله عنه) ، صرف له معظم أوقاته في حلّه وفي سفره، فعن أنس بن مالك قال: بعثني الأشعري إلى عمر (رضي الله عنه) ، فقال عمر: كيف تركت الأشعري؟ فقلت له: تركته يعلم الناس القرآن، فقال: أما إنه كيّس، ولا تُسمعها إياه. (سير أعلام النبلاء، 2/389)
وأثمرت جهوده العلمية (رضي الله عنه) ، وقرت عينه برؤية عدد كبير حوله من حفاظ القرآن الكريم وعلمائه، زاد عددهم في البصرة وحدها على ثلاثمئة، ولما طلب عمر بن الخطاب من عماله أن يرفعوا إليه أسماء حفاظ القرآن لكي يكرمهم ويزيد عطاءهم؛ كتب إليه أبو موسى أنه بلغ من قبلي ممن حمل القرآن ثلاثمئة وبضعة رجال. (أبو موسى الأشعري، ص 129)
واهتم أبو موسى (رضي الله عنه) بتعليم السنة وروايتها؛ فروى عنه عدد من الصحابة وكبار التابعين. قال الذهبي – رحمه الله -: حدّث عنه بريدة بن الحصيب، وأبو أمامة الباهلي، وأبو سعيد الخدري، وأنس بن مالك، وطارق بن شهاب، وسعيد بن المسيب، والأسود بن يزيد، وأبو وائل شقيق بن سلمة، وأبو عثمان النَّهدي، وخلق سواهم. (سير أعلام النبلاء، 2/381)
وكان من المقرّبين لأبي موسى في البصرة أنس بن مالك ويعتبر من خواصه، فعن ثابت عن أنس قال: كنا مع أبي موسى في مسير، والناس يتكلمون ويذكرون الدنيا، قال أبو موسى: يا أنس إن هؤلاء يكاد أحدهم يفري الأديم بلسانه فرياً، فتعالَ فلنذكر ربنا ساعة، ثم قال: ما بطَّأ بالناس؟ قلت: الدنيا والشيطان والشهوات، قال: لا، لكن عُجّلت الدنيا وغيّبت الآخرة، أما والله لو عاينوها ما عَدلوا ولا بدّلوا. (أنس بن مالك الخادم الأمين ، عبد الحميد طهاز ، ص 135)
4- ولاية أبي موسى في عهد عمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم):
يعتبر أبو موسى ـ بحق ـ أشهر ولاة البصرة أيام عمر بن الخطاب، فقد فتحت في أيامه المواقع العديدة في فارس، فكان يجاهد بنفسه، ويرسل القادة للجهات المختلفة من البصرة، ففي أيامه تمكَّن البصريون من فتح الأهواز وما حولها، وفتحوا العديد من المواضع المهمة، وكانت فترة ولايته حافلة بالجهاد، وقد تعاون أبو موسى مع الولاة المجاورين له في كثير من الحروب والفتوحات، وقد قام بجهود كبيرة لتنظيم المناطق المفتوحة وتعيين العمال عليها وتأمينها وترتيب مختلف شؤونها.
وقد جرت العديد من المراسلات بين أبي موسى وعمر بن الخطاب في مختلف القضايا؛: وهي قيّمة قال فيها عمر:
أما بعد؛ فإن أسعد الناس من سعدت به رعيته، وإن أشقى الناس من شقيت به رعيته، وإياك أن ترتع فيرتع عمالك، فيكون مثلك عند ذلك مثل البهيمة نظرت إلى خضرة من الأرض فرتعت فيها تبغي السمن، وإنما حتفها في سمنها. (مناقب عمر لابن الجوزي ، ص 130)
وهناك العديد من الرسائل بين عمر وأبي موسى تدل على نواحٍ إدارية وتنفيذية مختلفة كان يقوم بها أبو موسى بتوجيه من عمر، وقد جمع معظم هذه المراسلات محمد حميد الله في كتابه القيم عن الوثائق السياسية.
وتعتبر فترة ولاية أبي موسى على البصرة من أفضل الفترات، حتى لقد عبر عنها أحد أحفاد البصريين فيما بعد وهو الحسن البصري ـ رحمه الله ـ فقال: ما قدمها راكب خير لأهلها من أبي موسى، إذ إن أبا موسى – رحمه الله -كان بالإضافة إلى إمارته خير معلم لأهلها، حيث علَّمهم القرآن وأمور الدين المختلفة. (سير أعلام النبلاء، 2/389)
وفي عهد عمر بن الخطاب كان العديد من المدن في فارس، والتي فتحت في زمنه تخضع للبصرة وتدار من قبل والي البصرة الذي يعين عليها العمال من قبله، ويرتبطون به ارتباطاً مباشراً، وهكذا اعتبر أبو موسى من أعظم ولاة عمر، واعتبرت مراسلات عمر مع أبي موسى من أعظم المصادر التي كشفت سيرة عمر مع ولاته، وبيّنت ملامح أسلوبه في التعامل معهم.
وقد أوصى عمر (رضي الله عنه) في وصيته للخليفة من بعده: ألاَّ يقِرَّ لي عامل أكثر من سنة، وأقِرُّوا الأشعري أربع سنين. (سير أعلام النبلاء، 2/391)
وقد تولى أبو موسى منصب القضاء في عهد عمر، وكان كتاب عمر إليه في القضاء أنموذجاً ومثالاً يفيد كل قاض، بل وكل إداري، في كل زمان ومكان، وقال عنه ابن القيم: وهذا كتاب جليل تلقاه العلماء بالقبول، وبنوا عليه أصول الحكم، والشهادة، والمفتي أحوج شيء إليه وإلى تأمله والتفقه فيه. (خلافة علي بن أبي طالب ، عبد الحميد ، ص 262)
كما تولى الولاية في عهد عثمان، واستقضاه ذو النورين على البصرة أيضاً، ولما قتل عثمان كان والياً على الكوفة. ولما تولى علي (رضي الله عنه) الخلافة، أخذ أبو موسى له البيعة من أهل الكوفة، إذ كان والياً عليها لعثمان بن عفان (رضي الله عنه) ، وحين استنفر الخليفة الكوفيين من ذي قار، رأى أبو موسى بوادر الفتنة والانشقاق بين المسلمين، فنصح لأهل الكوفة أن يلزموا بيوتهم ويعتزلوا هذا الأمر فإنما هي فتنة، القاعد فيها خير من القائم، والقائم خير من الماشي ـ ولكن لاختلاف وجهة نظره مع الخليفة عزل عن ولاية الكوفة. (التاريخ الصغير، 11/109)
إن حياة أبي موسى (رضي الله عنه) منذ إسلامه قضاها في نشر الإسلام وتعليم الناس العلم، وخاصة القرآن الذي اشتهر بقراءته، والجهاد في سبيل الله والحرص عليه، والفصل في الخصومات، ونشر العدل وضبط الولايات عن طريق القضاء والإدارة، ولا شك إن هذه المهمات صعبة وتحتاج إلى مهارات وصفات فريدة؛ من العلم والفهم والفطنة والحذق والورع والزهد، وقد أخذ منها أبو موسى بنصيب وافر، فاعتمد عليه رسول الله ﷺ، ثم الخلفاء الأربعة من بعده رضوان الله عليهم، فهل يتصور أن يثق رسول الله ﷺ ثم خلفاؤه بعده برجل يمكن أن تجوز عليه مثل الخدعة التي ترويها قصة التحكيم. (تحقيق مواقف الصحابة في الفتنة، 2/227)
إن اختيار أبي موسى ـ (رضي الله عنه) ـ حكماً عن أهل العراق من قِبَل عليّ – (رضي الله عنه) -وأصحابه ينسجم تماماً مع الأحداث، فالمرحلة التالية هي مرحلة الصلح وجمع كلمة المسلمين، وأبو موسى الأشعري كان من دعاة الصلح والسلام، كما كان في الوقت نفسه محبوباً، مؤتمناً من قبائل العراق، وقد ذكرت المصادر المتقدمة: أن علياً (رضي الله عنه) هو الذي اختار أبا موسى الأشعري، يقول خليفة في تاريخه: وفيها – سنة 37 ه – اجتمع الحكمان: أبو موسى الأشعري من قبل عليّ، وعمرو بن العاص من قبل معاوية. (تاريخ خليفة، ص 191)
ولهذا يمكن القول: إن الدور المنسوب للقرّاء في صفين من مسؤولية وقف القتال والتحكيم، وفرض أبي موسى حكماً ليست إلا فرية تاريخية اخترعها الإخباريون الشيعة الذين ما انقطعوا عن تزوير وتشويه تاريخ الإسلام بالروايات الباطلة، وكان يزعجهم أن يظهر عليّ – (رضي الله عنه) – بمظهر المتعاطف مع معاوية وأهل الشام، وأن يرغب في الصلح مع أعدائهم التقليديين، من جهة أخرى يحَمّلون المسؤولية أعداءهم الخوارج، ويتخلصون منها، ويجعلون دعوى الخوارج تناقض نفسها، فهم الذين أجبروا علياً (رضي الله عنه) على قبول التحكيم، وهم الذين ثاروا عليه بسبب قبول التحكيم. (تحقيق مواقف الصحابة، 2/215)
إن هذا العرض الموجز عن أبي موسى الأشعريّ (رضي الله عنه) أردنا من خلاله أن نبين شخصيته (رضي الله عنه) في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم) والخلفاء الراشدين (رضوان الله عليهم)، وعلو كعبه عندهم، وعظم مكانته لديهم، بما يردّ – عند القارئ المنصف – وصف الخيانة الذي تحمل نوري المالكي وزره ووصفه به. إنّ أبا موسى من الشخصيات المؤثرة في عصر الخلفاء الراشدين وله مكانة عظيمة وحساسة كما مر، وقد تعرضت للتشويه، وغالباً إذا تحدث أحد عن صفين والتحكيم؛ تعرضت شخصية أبي موسى وعمرو بن العاص (رضي الله عنهما) للتشويه والكذب والافتراء بسبب الروايات الضعيفة والمكذوبة، التي وضعتها أيدى البغض والخيانة لأهل الصدق والوفاء وحملة الدين العظيم.
______________________________________
- سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، (2/381).
- الطبقات، ابن سعد، (4/107).
- فتح الباري، ابن حجر السعقلاني، (7/189).
- البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، (7/114).
- تفسير التابعين، محمد بن عبد الله الخضيري، (1/423).
- أبو موسى الأشعري الصحابي العلم المجاهد ، محمد طهماز ، ص 121.
- أنس بن مالك الخادم الأمين ، عبد الحميد طهاز ، ص 135.
- الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة، محمد حميد الله.
- خلافة علي بن أبي طالب ، عبد الحميد بن علي فقيهي ، ص 262.
- إعلام الموقعين، ابن قيم الجوزية، (1/186).
المرجع الأساسي للمقال:
- أسمى المطالب في سيرة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) ، علي محمد الصلابي، دار ابن كثير، ط2 1430 ه/ 2009م، ص. ص 555 – 563. رابط الكتاب في موقع الدكتور علي الصلابي: http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/632