العيش في أجواء الهجرة النبوية المشرَّفة يستدعي عرض مواقف أبطالها؛ للإفادة منها، ولبيان قدر التضحية والفداء الذي بذله أبناء هذا الجيل الفريد، خصوصاً الشباب، الذين تحلوا بالإيمان والإخلاص والحكمة، منهم مصعب بن عمير؛ ذلك الفتى القرشي النسيب الذي كان قبل إسلامه أغنى وأعطر أهل مكة، فلما أسلم انخلع من ذلك كله، بل يوم استُشهد في «أُحد» لم يجدوا ما يغطونه به، ترك المال والجاه والنعيم وآثر ما عند الله تعالى.
وقد اخترنا مصعباً لأنه لم يترك لشباب اليوم عذرًا لتقصير أو فشل، متحصنًا بكتاب الله العاصم من كل شر، محبًّا لله ورسوله، محاورًا ماهرًا أمام خصمه، عارفًا بزمانه وأحوال بيئته، حتى قيل: «لكل أمة موقِظ ولكل مدينة مصعب»، ولـ«مصعب الخير» مواقف مشهودة، كلها تترجم إخلاصه وتجرده، غير أن هناك موقفًا واحدًا نقف عنده لما فيه من دروس وعظات للشباب، وهو موقفه مع سعد بن معاذ، وأُسيد بن حضير يوم إسلامهما.
كان سعد، وأُسيد سَيِّديْ قومهما، وكانا مشركين، فلما سمعا بنشاط مصعب الدعوي قال سعد لأُسيد: لا أبا لك، انطلق إلى هذين الرجلين (مصعب، وأسعد بن زرارة) اللذين أتيا ليسفِّها ضعفاءنا، فازجرهما وانههما أن يأتيا دارينا، فأخذ أُسيد حربته ثم أقبل عليهما، فلما رآه ابن زرارة قال لمصعب: هذا سيد قومه وقد جاءك فاصدق الله فيه، فوقف عليهما متشتمًا فقال: ما جاء بكما تسفِّهان ضعفاءنا؟ اعتزلانا إن كانت لكما بأنفسكما حاجة، فقال مصعب: أو تجلس فتسمع، فإن رضيت أمرًا قبلته، وإن كرهته نكفّ عنك ما تكره.
قال أُسيد: أنصفتَ، ثم ركز حربته وجلس إليهما، فكلمه مصعب بالإسلام، وقرأ عليه القرآن، فقال أُسيد: ما أحسن هذا الكلام وأجمله! كيف تصنعون إذا أردتم أن تدخلوا في هذا الدين؟ قالا: تغتسل فتطهر، وتطهر ثوبيك، ثم تشهد شهادة الحق، ثم قام فركع ركعتين، ثم قال لهما: إن من ورائي رجلًا إن اتبعكما لم يتخلف عنه أحد من قومه، وسأرسله إليكم الآن.. سعد بن معاذ.
ثم أخذ حربته وانصرف إلى سعد وقومه، فلما رآه سعد قال: أحلف بالله لقد جاءكم أُسيد بغير الوجه الذي ذهب به، فلما وقف عليهم قال له سعد: ما فعلت؟ قال: كلمت الرجلين فوالله ما رأيت بهما بأسًا، وقد نهيتهما فقالا نفعل ما أحببت، وقد حُدِّثتُ أن بني حارثة خرجوا إلى أسعد بن زرارة ليقتلوه؛ وذلك أنهم عرفوا أنه ابن خالتك ليحقِّروك.
فقام سعد مُغضَبًا، وأخذ الحربة، ثم خرج إليهما فوجدهما (مصعب، وأسعد) مطمئنيْن، فعرف أن أسيدًا أراد أن يسمع منهما، فوقف متشتمًا، فقال له مصعب: أو تقعد فتسمع؟ فإن رضيت أمرًا ورغبت فيه قبلته، وإن كرهته عزلنا عنك ما تكره، فقال سعد: أنصفتَ، ثم ركز الحربة وجلس، فعرض عليه الإسلام، وقرأ عليه أول «الزخرف»، فعُرف في وجهه الإسلام، ثم قال لهما: كيف تصنعون إذا أنتم أسلمتم ودخلتم في هذا الدين؟ ففعل مثلما فعل أُسيد.
إن هذا الموقف، على قصر زمنه وسرعته، يحمل دلالات عظيمة، فهذا الشاب مصعب كافأه الله بإخلاصه وحماسته بهداية هذين الزعيمين ومن وراءهما من قومهما في لحظات، رغم ما اكتنف ذلك من أخطار قد يكون ثمنها حياته، ولم يكن الإخلاص والحماسة وحدهما كافيين لأن ينجز مصعب ما أنجز؛ إذ قيل: إنه لم يبق بيت في المدينة إلا ودخله الإسلام على يديه قبل هجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها، إنما أضاف إليهما حُسن الخلق والعلم والحكمة والحوار الهادئ البنَّاء، لقد سدَّ مصعب الثغر وزيادة، وأدخل الإسلام في قلوب المعادين بحلو منطقه وجمال عرضه وسلامة بضاعته، وأثبت أن شباب الإسلام قوم عمليون منجزون، وهم أبعد الناس عن اللغو والطنطنة.
ليت شباب اليوم من أبناء الحركة الإسلامية، الذين كثرت معاركهم، كما كثرت سقطاتهم على مواقع التواصل الاجتماعي يدركون هذه المعاني، ويسيرون على نهج أجدادهم الأُوَل، مصعب وإخوته، الذين كسبوا أفئدة المشركين وقلوبهم، ودان لهم القريب والبعيد، حُبًّا وكرامة، وكانوا محل تقدير وإعجاب من خصوم كان شاغلهم الشاغل الحرب والقتال، فما دانوا لهم إلا لشيء وقر في قلوبهم، وطريقة في الدعوة قائمة على نهج القرآن: (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) (النحل: 125).