بعد 6 سنوات من المشهد التاريخي الذي فرض في 27 يوليو 2017م، يتجدد التحدي، إذ يوافق هذا اليوم الذكرى التوراتية المسماة «ذكرى خراب الهيكل»، وفيها تخطط جماعات الهيكل وجمهور الصهيونية الدينية لعدوانهم القادم المرتقب على المسجد الأقصى المبارك، ولتسجيل رقم قياسي للمقتحمين؛ فهل تتجدد معها وقفة العز والتصدي لإفشال هذا المسعى؟
«خراب الهيكل» المزعوم
تزعم الرواية التوراتية أن الهيكل الأول والثاني قد دُمّرا في التاسع من آب العبري، الذي تحول بدوره إلى «يوم الأحزان الأسطوري» الذي باتت تُنسب إليه مختلف الكوارث في التصور اليهودي، فيقال: إن سقوط «قلعة بيتار» في القرن الثاني الميلادي كان فيه، وإنه ذات اليوم الذي طرد فيه يهود إنجلترا في القرن الثالث عشر، والذي شهد طرد اليهود من الأندلس في القرن الخامس عشر، وقد حاول مناحيم بيغن، أول رئيس وزراء من تيار اليمين، أن ينقل الاحتفال بـ«ذكرى المحرقة» إلى هذا اليوم باعتباره يوم الأحزان التاريخي، لكن الحاخامية الرسمية عارضت هذا المقترح في حينه.
تؤسس الأسطورة التوراتية لهذا اليوم باعتباره اليوم الذي يولد فيه الأمل من قلب الحزن، ففيه سيولد «المسيح المنتظر»، ليأتي ويقيم الهيكل الثالث المزعوم، وهم لذلك يمزجون فيه ما بين الصيام والمراثي، وما بين تجديد العهد مع تأسيس الهيكل ومع احتلال القدس، ورغم أن الصهاينة الأوائل الذين غلب عليهم الطابع القومي العلماني كانوا يقللون من شأن هذا اليوم على اعتبار أن «يوم الاستقلال» –أي يوم النكبة- قد قلب مفعوله وأسس بالفعل «الهيكل الثالث» الذي هو الكيان الصهيوني؛ فإن أتباع تيار الصهيونية الدينية الصاعد اليوم الذي يتولى مقاليد القرار الفعلية في حكومة نتنياهو أعادوه بالتدريج إلى الواجهة، حيث إنهم يرون أن الهيكل مقدس ديني وليس مجازاً يمكن تفسيره على أنه كيان سياسي، وهو في نظرهم «الجوهر الناقص» للصهيونية الذي لا بد أن يُبنى في مكان المسجد الأقصى وعلى كامل مساحته.
بهذه الرؤية، فإن جماعات الهيكل المتطرفة ترى في هذه الذكرى يوماً لتجديد العهد مع إزالة المسجد الأقصى من الوجود وتأسيس الهيكل المزعوم ولتحقيق قفزات عملية في سبيل ذلك، فتسعى خلاله إلى فرض أكبر عدد من المقتحمين في كل عام، وقد تم لها ذلك في العام الماضي بوصول الرقم إلى 2200 مقتحم، وهو أكبر عدد يقتحم المسجد الأقصى في يوم واحد منذ احتلاله، وقد جاء هذا الاقتحام يوم الأحد 7 أغسطس 2022م تحت غطاء العدوان الصهيوني على قطاع غزة الذي تصدت له المقاومة الفلسطينية في معركة «وحدة الساحات».
اقتحام يوم تاسوعاء.. تقاطع متجدد مع المناسبات الإسلامية
على مدى السنوات الأربع الماضية، كان عدوان «ذكرى خراب الهيكل» على المسجد الأقصى المبارك يتقاطع مع مناسبات إسلامية مركزية، فنتيجةً لطبيعة التقويم العبري ذي السنوات الشمسية والأشهر القمرية، فإن هذا التقويم يصحح نفسه وفق السنة الشمسية بإضافة شهر بمتوسط كل ثلاث سنوات تقريباً، وهو ما يجعله في حركية دائمة تزيد من احتمال تقاطع مناسباته مع المناسبات الهجرية، فقد جاءت هذه الذكرى في عام 2019 مناظرة لعيد الأضحى المبارك لتتسبب بأول اقتحام صهيوني لـ«الأقصى» في يوم عيد، وهو الاقتحام الذي وُوجه بالرباط والتصدي وبات يحمل اسم «جرح الأضحى» في الوجدان المقدسي، ثم جاءت تلك الذكرى في عام 2020 في يوم عرفة، وفي عام 2021 في يوم التروية.
مع إضافة شهر للسنة العبرية المتقاطعة مع عام 2022م تغير التناظر ليصبح عدوان «ذكرى خراب الهيكل» مناظراً ليوم تاسوعاء، وهو يوم التاسع من محرم الذي يُسن صيامه مع العاشر من محرم في احتفاء بنجاة سيدنا موسى عليه السلام والمؤمنين معه من بطش فرعون، فالرؤية الإسلامية التوحيدية ترى في كل النبوات امتداداً لرسالة التوحيد.
عدوان «ذكرى خراب الهيكل».. وشرارة «ثورة البراق» 1929م
وقد سبق لعدوان «ذكرى خراب الهيكل» أن كان الشرارة التي أطلقت «ثورة البراق»، أولى الثورات الكبرى على أرض فلسطين ضد الاستعمار البريطاني، إذ تزامنت حينها تلك الذكرى المزعومة مع ذكرى المولد النبوي الشريف، فجاءت الذكرى التوراتية يوم الخميس 15 أغسطس 1929م، وحاول المستوطنون الصهاينة استغلالها للاستيلاء على حائط البراق بنفخ البوق ونصب الشمعدان وأداء الطقوس التوراتية وتعليق قطعة قماشية مطرزة ترمز للهيكل على حائط البراق، فجاءت مسيرة المولد النبوي يوم الجمعة 16 أغسطس 1929م التي كان من المعتاد أن يقودها المفتي ويشهدها عشرات الآلاف؛ لتتحول إلى شرارة «ثورة البراق» التي انطلقت من القدس إلى عموم فلسطين.
أما في عام 1969م، فقد جاء إحراق الجامع القبلي بعد 5 أسابيع تماماً من تلك الذكرى ليأتي الحريق يوم الخميس 21 أغسطس 1969م، وقد حُمّلت مسؤوليته لمجرم صهيوني مسيحي هو الأسترالي مايكل دينيس روهان، وهو من المؤمنين بعقيدة «العصر الألفي السعيد» بعودة المسيح إلى الأرض في آخر الزمان، التي لا بد لكي تحصل أن يقام الهيكل اليهودي المزعوم في مكان المسجد الأقصى، فقام روهان بعمله هذا قريباً من تلك الذكرى كإعلان عن تأسيس الهيكل الثالث، وهو الذي كان يرى في نفسه يهودياً في الوقت عينه، وسبق له أن هاجر بحراً إلى فلسطين وأقام لعدة أشهر في كيبوتس جنوب مدينة حيفا.
عدوان «ذكرى خراب الهيكل» يتجدد في ذكرى نصر باب الأسباط
في هذا العام تأتي هذه الذكرى العبرية في يوم الخميس 27 يوليو 2023م لتطابق باليوم والتاريخ ذكرى نصر باب الأسباط، الذي كان الخميس 27 يوليو 2017م، حيث أتمت سلطات الاحتلال رفع البوابات الإلكترونية والممرات الحديدية والكاميرات والجسور في الليلة السابقة لتسجل انسحاباً كاملاً أمام الإرادة الشعبية التي تصاعدت على مدى 14 يوماً رغم القمع والتنكيل؛ فجاء الدخول للمسجد الأقصى بعد صلاة العصر من يوم 27 يوليو بعد إجبار الاحتلال على فتح باب حطة، وقد كان يحاول إبقاءه مغلقاً لتحقيق أي إنجاز في وجه الإرادة الشعبية.
واجب اللحظة اليوم هو الحشد للتصدي لعدوان «ذكرى خراب الهيكل» الذي تخطط له جماعات الهيكل يوم الخميس 27 يوليو، وأن تتجدد فيه إرادة باب الأسباط، وأن تتجدد الروح التي حققت ذلك الانتصار، وأن يُدعى منذ اليوم للاعتكاف في المسجد الأقصى في ليلة تاسوعاء، الليلة السابقة لذلك العدوان، لنجدد بذلك معركة الاعتكاف التي فُرضت فيها إرادة المعتكفين في رمضان، حتى نمنع العدوان من تحقيق هدفه بفرض رقم قياسي جديد للمقتحمين واستباحة واسعة لـ«الأقصى» بالطقوس التوراتية، أو يمنع الاقتحام من أساسه أسوة بتجارب سابقة.