للسيرة النبوية دور عظيم في إبراز معالم التشريع الإسلامي في صورته المتكاملة والمتوازنة، بعيداً عن أي نظرة ناقصة أو غالية في أي جانب من الجوانب، فمثال النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم هو المثال الأكمل في تنزيل نصوص الوحي على الواقع بإجماع المسلمين، وسيرته العطرة سيرة واقعية عملية، فيها مختلف جوانب الحياة وتعقيداتها، وفيها يقول الله تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} (الأحزاب: 21).
ولا يزال دور المرأة في الدعوة والعمل للدين محل جدل بين مختلف التيارات الإسلامية؛ حدوده وضوابطه ومجالاته، وتبقى السيرة النبوية بما تمثله من منهج وأحكام خير حكم لحسم هذا الجدل.
في السيرة النبوية الشريفة ومن بعد نداء «اقرأ» في غار حراء برز دور المرأة المسلمة كزوجة صالحة تمثل ملاذ الداعية الأول عليه الصلاة والسلام وأمانه ومحل سره، تطمئنه وتقويه وتبشره وتشير عليه، ثم تعيش معه مختلف تقلبات الحياة والدعوة، وتساهم في حركة الدعوة لضبط حركة الحياة وفق منهج السماء، وهي ترتل قول الله تعالى: {مَنۡ عَمِلَ صَٰلِحا مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِن فَلَنُحۡيِيَنَّهُۥ حَيَوٰة طَيِّبَة وَلَنَجۡزِيَنَّهُمۡ أَجۡرَهُم بِأَحۡسَنِ مَا كَانُواْ يَعۡمَلُونَ} (النحل: 97).
وفي الهجرة النبوية الشريفة –الحدث الأبرز الذي اختاره الصحابة رضي الله عنهم باتفاق ليكون بداية التأريخ الهجري- كان للمرأة المسلمة دورها الدعوي الكبير الذي خلده علماء السيرة على صفحات من نور في تاريخنا الإسلامي الأغر، حتى قال د. مصطفى السباعي في كتابه «السيرة النبوية دروس وعبر» (ص 42): «لجهاد المرأة في سبيل الإسلام في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم صفحات بيضاء مشرقة، تؤكد لنا اليوم أن حركات الإصلاح الإسلامي ستظل وئيدة الخطأ، قليلة الأثر في المجتمع حتى تشترك فيها المرأة».
فقد تحملت المرأة المسلمة مع الرجل المسلم أعباء الهجرة وما تحمله في طياتها من مشاق الرحلة وآلام الغربة، وقد روى لنا العلَّامة ابن كثير في «البداية والنهاية» (2/ 181) واحدة من تلك القصص الملحمية العظيمة التي تذكر ببطولة المرأة المسلمة في ذلك الحدث المهم، تلك هي قصة هجرة السيدة أم سلمة رضي الله عنها، وما تعرضت له من محن وابتلاءات في سبيلها، فقد منعها أهلها من زوجها بسبب الهجرة، ومنعها أهل زوجها من ولدها في مقابل ذلك، وبقيت وحيدة تبكي في أبطح مكة، حتى رقُّوا لحالها، وتركوها تهاجر إلى المدينة وحيدة مع طفلها حتى لقيت عثمان بن طلحة، فرافقها حتى مشارف المدينة بأخلاق عربية أصيلة، حتى قالت أم سلمة رضي الله عنها: «ما أعلم أهل بيت في الإسلام أصابهم ما أصاب آل أبي سلمة، وما رأيت صاحباً قط كان أكرم من عثمان بن طلحة».
حتى إذا أُذن لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالهجرة كانت المرأة المسلمة موضع ثقة النبي صلى الله عليه وسلم ومحل أسراره، فقد روت السيدة عائشة رضي الله عنها قصة دخول النبي صلى الله عليه وسلم على أبيها الصديق رضي الله عنه بعد ليلة عصيبة ومحاولة أثيمة لاغتيال أشرف الخلق صلى الله عليه وسلم، فيأمره النبي صلى الله عليه وسلم بإخراج من عنده ليخبره بأخطر سر عرفته مكة في ذلك الوقت، فيطمئنه الصديق ويقول: يا رسول الله، إنما هما ابنتاي، فيدلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخبر أمامهما في ثقة واطمئنان ويقول: «إن الله قد أذن لي في الخروج والهجرة»، حتى قال ابن إسحاق: «ولم يعلم –فيما بلغني- بخروج رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج إلا عليّ بن أبي طالب، وأبو بكر الصديق، وآل أبي بكر»، فحملت البنتان الكريمتان أمانة السر العظيم، ولم ينتقص النبي القائد صلى الله عليه وسلم ولا أحد من المسلمين من قدرتهما على حمل الأمانة.
وفي مشهد آخر ينبئ عن قوة شخصية السيدة أسماء، وعن حكمة من استأمنها على أسرار الدعوة وأسراره، يخرج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصديق رضي الله عنه من البيت، ليحضر أبو جهل بن هشام في نفر من قريش إلى بيت الصديق، كما تروي ذلك السيدة أسماء نفسها، فتخرج إليهم، فيسألونها عن أبيها، فتقول: لا أدري أين أبي، فيضربها الفاجر أبو جهل على وجهها، حتى يسقط قرطها، ولكن الفتاة المسلمة تأبى أن تضعف أو تتراجع، حتى انصرفوا خائبين، في مشهد تتغلب فيه الفتاة المسلمة وثباتها على سفه أبي جهل وطغيانه وسوء خلقه.
ثم تقوم السيدة أسماء رضي الله عنها بمهمة دعوية تدرك خطرها وخطر وقوع أي خطأ فيها، تلك هي مهمة حمل الطعام إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيها في الغار، كانت تفكر في الطريق وتخطط لسلوك أنسب مساراته، تحذر العين والرقيب، تتحمل مشقة المشي وصعود الجبل، ثم تمحو الآثار، كانت تحمل الدعوة في قلبها، وتدرك دورها وأهميته، وتعمل له بحكمة وإخلاص.
بأمثال أم سلمة، وأسماء، وعائشة رضي الله عنهن كانت الهجرة وقامت الدعوة، حتى خلَّد الله أسماءهن في السيرة النبوية، كما خلَّد خبر امرأة فرعون، ومريم بنت عمران في القرآن الكريم مثلاً للذين آمنوا، ومن أخبارهن العطرة وأمثالها يتزن المسلم في نظرته للمرأة ودورها في الدعوة والحياة، بعيداً عن إفراط لا يراعي وظيفتها وقدرتها، وعن تفريط يهمش دورها أو يسقطه ويلغيه، ولا خير في إفراط أو تفريط يخالف منهج النبوة ووحي الرسالة.
والله تعالى وحده الهادي والموفق إلى كل مطلب.