سليم عبدالقادر
كأن الله جل شأنه ادَّخر علاَّمة الأمة الشيخ يوسف القرضاوي لهذه الأيام الحاسمات في تاريخ الأمة، وقد هيأ له من أسباب العلم والعمل والمصداقية ما يعينه على أداء مهمته، وكتب له من القبول ما لم يكتبه إلا لثلة قليلة من علماء الأمة على مدى التاريخ فنال احترام العامة والخاصة والشباب والشيوخ والرجال والنساء، وكان لكتبه وخطبه وبرنامجه الشهير “الشريعة والحياة” دور كبير في نهضة الأمة وتجديد الدين.
وقف الشيخ إلى جانب الثورة التونسية منذ يومها الأول، وكذلك فعل حين هبت الثورة المصرية، والليبية، واليمنية، والسورية.. وقف يصدع بالحق، وينصح الطغاة المستبدين بالإصلاح العاجل، ثم يطلب منهم الرحيل نزولاً عند رغبة الشعوب.. وكانت كلماته نوراً يضيء طريق الشباب الثوار الأحرار، وصفات مستحقة على أوجه المستبدين وأعوانهم وأبواقهم.
في خطبة الجمعة (25/3/2011م)، تناول الشيخ الثورة السورية، تحدث عنها حديث العالم العارف بالشأن السوري، كان موضوعياً إلى أقصى حدود الموضوعية.. ذكر للرئيس السوري أنه أحسن استقباله حين زار سورية، ولكن ذلك لم يمنع الشيخ من أن يبين الحق ويجهر به، وفاء لعهد الله وميثاقه الذي أخذه على الذين أوتوا العلم، فبين بذلك موقف الشريعة الإسلامية الغراء، التي تنهى عن الظلم، وتنصر المظلوم، ورفع عن علماء الأمة الحرج، وأعاد للعالم دوره الرائد في البيان عند الفتن، وتوضيح الأمور أمام العامة، لئلا يقعوا ضحية الإعلام المخادع المرتبط بالمستبدين.
بيَّن الشيخ جملة من المظالم المرعبة التي يعيشها الشعب السوري منذ نصف قرن من الزمان، ويسكت عنها العالم المتحضر، وبيَّن جملة من المظالم الأكثر رعباً وفظاعة، يعيشها فريق كبير من أبناء الشعب السوري من ثلث قرن في ملفات مقفلة، يراهن النظام على الزمان أن ينسى الناس جرائم طالت أكثر من خمسين ألف شهيد في تدمر وحماة، لا أحد يعرف لواحد منهم قبراً.. وذكر غير ذلك من المظالم والجرائم، وطالب بالإصلاح العاجل والكف عن القتل وسفك الدماء.
وكان الشيخ، حفظه الله، قد دأب في خطبه الأخيرة على النصح الأمين، والتذكير الرفيق، والتحذير الحكيم للأنظمة المرشحة لانتقال الثورة إليها، ولكن أحداً من المعنيين لم يصغ إلى كلماته الناصحة الصادقة، وكأنه كان يتحدث إلى قوم صم بكم عمي.. لا يسمعون إلا ما يحبون أن يسمعوا، ولا يرون إلا ما يحبون أن يروا.
لو أصغى النظام السوري إلى كلمات الشيخ وعقلها وفهمها؛ لرأى فيها سبيل الخير والنجاة للحاكم والمحكوم، وللبلد وأهله، ولكن الرد جاء بأمر من النظام، أو قياماً بالواجب كالعادة، من خلال صحافة بائسة أسيرة، لا يقرأها أحد، ولا تعني أحداً، وبأقلام صحفيين تائهين لو أمرهم النظام بشتم آبائهم لفعلوا، ومن فريق آخر يسميه النظام “رجال الدين” من علماء لا مصداقية لهم، بعضهم سادر في غفلة لا صحوة منها إلا بالموت، وبعض آخر أساتذة في الوصولية والانتهازية والتزييف والمكابرة، الواحد منهم أدمن خبز السلطان، فهو يدور معه حيث دار، ويبيع دينه بدنياً غيره، يلجأ إليهم النظام عند الحاجة، وهو يعلم قيمته عندهم، وهم يعلمون قيمتهم الحقيقية عنده.
إن أولى خطوات الإصلاح السورية، لو كان ثمة إرادة وقدرة، تبدأ من طرد مصاصي الدماء، وناهبي الثروات، والأبواق المنافقة التي تزين النظام سبل العناد والصلف، ولو قادته إلى الهاوية.. إن الخطر الأكبر على أي نظام يأتي من هؤلاء الذين يقدمون له الخدمات الرديئة، والوصفات القاتلة، من جيوش المنافقين.. وليس من أمثال الشيخ القرضاوي، الذي يشخص الداء، ويصف الدواء بأمانة ولو كان مراً.
تمنيت لو أني قرأت، أو سمعت من يقول للشيخ من هؤلاء: شكراً لك، فقد نصحت وبررت.. ولكن هيهات هيهات.. تمنيت لو أن أحدهم رد رداً فيه شيء من العلم أو العقل أو مواجهة الحقيقة، فلم أجد سوى كلام لا قيمة له، يتهم الشيخ بالتحريض على “الفتنة”، وكأن هناك فتنة أكبر من ظلم الشعوب، والاستخفاف بحركتهم من أجل الحرية، وكأن هناك فتنة أكبر من ممالأة الظالمين وتسويغ بطشهم واستبدادهم، وكأن واجب العالِم والمثقف أن يكون في خدمة الظالم.. فيقلب الحق باطلاً والباطل حقاً.. وأن يجعل من الدين أفيون الشعوب!
لقد رأينا الشيخ القرضاوي، في مسيرته كلها، يدور مع الحق حيث يدور، وهو يحمل العلم الجم النافع، والقلب الشجاع الذكي، والعقل الحصيف الذي يعيش عصره.. لا يهمه غير أن يُرضي ربه وضميره، فإذا أغضب ذلك بعض المستفيدين من أنظمة الاستبداد، فإنه ولا شك يرضي عقلاء المؤمنين، ويرضي الجماهير المسحوقة المنهوبة، التي خرجت تطالب بالحرية والكرامة، والحياة التي تليق بالإنسان.
__________________________
العدد (1947)، 6 جمادى الأولى 1432هــ/ 9 أبريل 2001، ص22-23.