تجاوزت الحرب في السودان التي نتجت من تمرد «قوات الدعم السريع» مائة يوم، وسط تفاؤل بأن الجيش السوداني يقترب من حسم التمرد وتنظيف العاصمة السودانية من آثاره في مدة يقدرها البعض أنها لن تتجاوز أسابيع قليلة، إن شاء الله تعالى، بناء على تقديرات عسكرية على الأرض، في ظل دراسة الموقف العسكري للتمرد الذي بدأ يتهاوى بعد أن فقد معظم قياداته الميدانية، وأصبح يشكل مشكلة أمنية تستهدف ممتلكات المواطنين أكثر؛ مما يشكل تهديداً عسكرياً كما كان في أيامه الأولى مع بعض الطنين الإعلامي وبعض المحاولات البائسة لتسويقه سياسياً بمساندة من قوى محلية تستنصر بقوى إقليمية ودولية لها مطامع مشبوهة لم تعد خافية.
تمرد «قوات الدعم السريع» في السودان الذي اندلع في 15 أبريل 2023م، كان يخطط، كما اتضح جلياً، للاستيلاء على الدولة في السودان، وإحداث تغييرات سياسية وعسكرية واجتماعية واسعة، ولم يكن مجرد انقلاب عسكري يسعى للسلطة بتغيير قيادة القوات المسلحة السودانية فقط، ودعمته في تخطيطه هذا قوى محلية وإقليمية ودولية، بينما عارضته أخرى، والوقوف على حقيقة هذه المواقف مهم لمعرفة حقائق ما جرى وتداعياته.
نبدأ بالقوى المحلية، وأبرز من يمثلها قوتان رئيستان؛ هما الإسلاميون، وقوى الحرية والتغيير (قحت)، بالإضافة لقوى وطنية أخرى تقترب من هاتين القوتين الرئيستين أو تبتعد أو تتداخل، لكن مواقفها لا تؤثر كثيراً على مجمل المشهد السوداني.
الإسلاميون في السودان ويمثلهم التيار الإسلامي العريض وفصيله الأكبر الحركة الإسلامية السودانية ومن تحالف معهم ووقف موقفهم، أدركوا من اليوم الأول لتمرد «الدعم السريع» أن هذا التمرد يستهدف الدولة والجيش السوداني كمؤسسة، وأنه قادم على أسنة قوى إقليمية تتخذ من «الدعم السريع» مطية لخدمة أهدافها، وتتحدث تقارير صحفية وسياسية عن تورط دولة خليجية عربية في هذه المؤامرة بشواهد كثيرة وأدلة تناقلتها الوسائط الإعلامية، مع ضبط وثائق يأمل السودانيون أن يتم نشرها إعلامياً بصورة واسعة لتظهر الحقائق بجلاء للجميع، ويعرف السودانيون حجم المخطط.
على كل حال، أدرك الإسلاميون وحلفاؤهم في السودان حجم المخطط من أول يوم، تسندهم في ذلك خبرة سياسية واسعة في إدارة الدولة والتعامل مع المؤامرات المختلفة؛ لذلك لم يتوانوا في إدانة الانقلاب عبر بياناتهم وتصريحاتهم وفضح المؤامرة التي تقف وراءه، ودعم القوات المسلحة كمؤسسة وطنية وجهة دستورية مناط بها الحفاظ على الدولة ومواجهة الأخطار التي تتهددها، وسحق أي قوة مسلحة تحاول تهديد الدولة ومؤسساتها.
بهذا الوضوح كان الأمر جلياً للإسلاميين وحلفائهم في السودان، حيث كان تقدير الإسلاميين أن تمرد «الدعم السريع» يهدد الدولة لا الحكومة، ويستهدف الشعب لا القوى السياسية، وزاد الأمر سوءاً الأيدي الخارجية التي ظهرت بالمتابعة لمجريات الأحداث قبل التمرد، يضاف إلى ذلك أن «قحت» كانت تنوي الرجوع للسلطة على صهوة التمرد وبمساندة قوى أجنبية، وعلى هذه الأسس بنى الإسلاميون موقفهم، واستنفروا الشعب السوداني الذي برهن على وعيه ووقف مع الجيش ضد التمرد في تلاحم أذهل التمرد وحلفاءه.
قوى «قحت» تحالف يجمع ثلة من اليساريين والعلمانيين وقوى طائفية ولافتات أخرى غير معروفة من قبل الشعب السوداني، هذه القوى راهنت على التمرد، متوهمة أنه سيعيدها للسلطة، وزاد من أوهامها الدعم السخي من قوى إقليمية تصورت أن تمرد «الدعم السريع» سيلحق الهزيمة بالجيش السوداني، خاصة مع الغدر والمفاجأة التي تم بها تنفيذ الخطوات الأولى للانقلاب، ولولا لطف الله تعالى ثم بسالة القوى الموجودة من الحرس الجمهوري حول القائد العام للجيش لنجح الانقلاب الغادر في تنفيذ مؤامرته.
«قحت» لم يصدر منها حتى اليوم إدانة للتمرد، وعبّرت في بياناتها عما أسمته «طرفي النزاع»، وهو تعبير سيئ يساوي بين مليشيا متمردة على الجيش السوداني، وجيش عريق يقوم بمهامه الدستورية والوطنية في الحفاظ على الدولة ومؤسساتها؛ مما اعتبره البعض طعنة في ظهر الجيش السوداني.
ولم تكتف «قحت» بذلك، بل طافت وفودها السياسية على دول الجوار وخاطبت المؤسسات الإقليمية تحمل مشروعها السياسي الذي يساوي بين الجيش السوداني وقوات «الدعم السريع» المتمردة، والهدف الرئيس لـ«قحت» العودة لسدة السلطة بالرغم من أن الشعب جربها في الحكم لأكثر من عامين؛ ففشلت فشلاً ذريعاً ولم تفلح في إحراز أي تقدم سياسي أو اقتصادي، وأحالت حياة المواطنين الى جحيم بسبب الغلاء وتردي الخدمات.
إذن، كانت «قحت» تحلم بالعودة للسلطة عبر تمرد قوات «الدعم السريع» وعبر الدعم الإقليمي من دول تطاولت على التدخل في الشأن السوداني، مستغلة الفوضى السياسية التي أعقبت سقوط نظام «الإنقاذ» في أبريل 2019م.
أما القوى الإقليمية ومواقفها من تمرد «الدعم السريع» فالكثير ينتظر الإفراج عن الوثائق التي تدمغ تورط هذه القوى في الشأن السوداني ومساندة انقلاب «الدعم السريع»، ولعل هذه الوثائق حال الكشف عنها ستذهل السودانيين والمتابعين للشأن السوداني، وإذا نحينا حديث الوثائق جانباً وتناولنا ما برز للسطح وظهر للإعلام تُصادفنا قوتان إقليميتان؛ إحداها دول «إيغاد» وهي دول شرق ووسط أفريقيا التي تجمعها منظمة بهذا الاسم، والقوى الثانية مصر ومن وافقها في خطها السياسي.
فدول «إيغاد» تتزعمها كينيا وإثيوبيا في المساندة السياسية لتمرد «الدعم السريع»، وظهر ذلك في مواقف هذه الدول بعد مؤتمر «إيغاد» الذي انعقد في جيبوتي برئاسة كينيا، ورغم أن السودان قد اعترض على رئاسة كينيا للجنة الخاصة بالسودان، فإن كينيا تمادت وعقدت المؤتمر دون حضور السودان، وأصدرت قرارات في مجملها في صالح تمرد «الدعم السريع»، بل إن الرئيس الإثيوبي أبي أحمد طالب بحظر الطيران والمدفعية الثقيلة؛ في استهداف واضح للجيش السوداني.
أما القوى الإقليمية الأخرى برئاسة مصر فقد نجحت في عقد مؤتمر دول الجوار السوداني بالقاهرة بعد مؤتمر «إيغاد»، ونجحت في حشد عدد من رؤساء دول الجوار السوداني، وأكد المؤتمر ضمن مقرراته وبيانه الختامي صراحة عدم التدخل في الشأن الداخلي السوداني، وأن الجيش السوداني هو المنوط به حفظ الأمن والنظام، وهذا الجهد وازن جهود «إيغاد»، بل تفوق عليها من خلال الرؤساء الذين حضروا ورصانة وقوة المقررات والتوصيات.