عبدالعزيز بو طيبان
طالعتنا جريدة “الوطن” بتاريخ 5/6/2013م بمقال لأحد الكتَّاب يقلل فيه من مكانة علماء الأمة، ويغش الأمة ويضللهم في مسألة العقيدة، وهذا فيه ما فيه من مخالف للهدي النبوي الصحيح في النصيحة للمسلمين والأدب مع علماء الأمة، ولنا مع مقاله هذا وقفات:
أولاً: في مقالنا هذا نتكلم عن الشيخ العلاَّمة د. يوسف القرضاوي حفظه الله، من حيث إنه عالم من علماء المسلمين المعاصرين الذي له مكانته العلمية بين علماء المسلمين بشهادة علماء الأمة له.
ثانياً: قول الشيخ القرضاوي: “علماء السعودية أنضج مني”، هذا الكلام فيه تواضع العالِم لأقرانه من العلماء في مسألة وقوفه مع “حزب الله” اللبناني، وهذا دارج بين أهل العلم من السلف الصالح.. فإن كنت متبعاً للسف الصالح، فهذا طريقهم في التواضع فيما بينهم، عند ظهور الحق لا كما يحلو لهذا الكاتب أن يصوره للناس، بأن هذا اعتراف من الشيخ القرضاوي بأن علماء المملكة حفظهم الله أعلم منه، وعليه فليتنازل عن جميع فتاويه واجتهاداته الفقهية التي تخالفهم، نقول: ما هذا التخبط والتعصب للرأي وللرجال، وما هذا الفهم الأعوج عن علم الفتوى والاجتهاد عند العلماء!
فقد تراجع عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه عن فتواه في غلاء المهور، فقال: أصابت امرأة وأخطأ رجل، وكان كثيراً ما يتراجع عن فتواه عندما يتبين له الحق بعد مراجعة الصحابة له وخصوصاً علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، فهل معنى هذا أن عمر بن الخطاب لا يصلح للفتوى، ويجب أن يتركها للصحابة؟! وكذلك الإمام أحمد بن حنبل يرحمه الله، كثيراً ما كان يتراجع عن فتواه عند ظهور الحق له، أو ظهور دليل ما كان عنده، فهل معنى هذا أن يترك الإمام أحمد الفتوى، ويتراجع عن كل فتاويه التي خالف فيها غيره من الفقهاء والعلماء.
لا شك أن هذا الفهم فهم خاطئ ومخالف لما كان عليه الصحابة والسلف الصالح رضي الله عنهم.
ثالثاً: ذكر بعض المسائل التي خالف فيها العلاَّمة القرضاوي أقرانه من العلماء نقول: هذه مسائل خلافية في فروع الدين لا يضر الخلاف فيها بين العلماء، وكما قالوا: “لا إنكار في خلاف”، فكل له أدلته واجتهاده، فمثلاً قولهم عن كتاب القرضاوي “الحلال والحرام”: كان يجب أن يسميه “الحلال والحلال”، رد عليهم بقوله: وأنا لست مستعداً أن أسميه “الحرام والحرام”!
رابعاً: وأما القول: إنه يجب أن يتراجع عن عقيدته الأشعرية، فنقول: إنه معلوم عند أهل العلم قاطبة إلا من شذ، أن العقيدة الأشعرية هي عقيدة أهل السُّنة والجماعة منذ القرون الفاضلة، ونسأل من يطعن في العقيدة الأشعرية، هل يستطيع أمام الملأ أن يطعن في عقيدة الإمام النووي، أو الإمام ابن كثير، أو الحافظ بن حجر، أو حجة الإسلام أبي حامد الغزالي وغيرهم من أئمة الهدى ومصابيح الظلام؟! سبحانك هذا بهتان عظيم!
فإذا كانت العقيدة التي يدرسها الأزهر الشريف هي “العقيدة الأشعرية”، وأهل مصر كلهم أشاعرة إلا من شذ، فأي عقل هذا الذي يضللهم؟!
خامساً: أما قولك في هذا المقال ومقالاتك الأخرى لخصومك: إنكم تغشون وتضللون الأمة الإسلامية، نقول: إن هذا الاتهام لخصومك ينطبق عليك تماماً، حيث إنك تضلل الأمة الإسلامية بطعنك بعقيدة أهل السُّنة والجماعة العقيدة الأشعرية التي لا تختلف عن عقيدة الإمام أحمد بن حنبل يرحمه الله، والإمام الطحاوي يرحمه الله، وهي عقيدة السواد الأعظم من المسلمين.
سادساً: أما فتاويه للمسلمين الذين يعيشون في الدول الغربية، فهي فتاوى تناسب المجتمع الذي يعيشون فيه لكي تزول عنهم الفتنة والحرج في الدين، وهو ما يسمى بفقه الواقع وفقه الأولويات، ومن المعلوم أن الفتاوى تتغير بتغير الزمان والمكان، كما قال أهل العلم.
وقد غيَّر الإمام الشافعي يرحمه الله معظم مذهبه الفقهي عندما انتقل من العراق إلى مصر، وكذلك الإمام مالك يرحمه الله لم يوافق الخليفة على تعميم مذهبه على باقي الأمصار.
فإذاً ديننا الإسلامي العظيم دين السماحة واليسر والرحمة، هو صالح لكل زمان ومكان، ومن الواضح وللأسف أن صاحب المقال لا يعترف بفقه الأولويات، ولا فقه الواقع، ولا حتى فقه الخلاف بين العلماء ويعتبره بدعة، فكل من خالفه الرأي من العلماء والدعاة يعتبره مبتدعاً، ونختم كلامنا عن العلاَّمة القرضاوي بما صرح به مؤخراً مفتي المملكة السعودية حفظه الله حيث أثنى على الشيخ القرضاوي وقال: “هذا هو ما كان عليه أهل العلم فيما سبق بالرجوع إلى الحق”.
وعندما تقارن بين ما قاله المفتي حفظه الله وبين ما قاله صاحب المقال يتبين لك الفرق بين طلبة العلم وكبار المشايخ!
سابعاً: يقول في بداية مقاله: “سبحان الله”.. الذي لم يتأصل بالعلم الشرعي جيداً تراه دائماً يميع جهود العلماء وطلابهم إذا رآهم كالريح المرسلة أمام البدع والمبتدعة!
نقول: مما لا شك فيه أن صاحب المقال لا يعترف بأي صاحب علم مهما تأصل في العلم الشرعي ما لم يكن من جماعته وأهل مذهبه، وأما قوله: تراه يميع جهود العلماء وطلابهم.. إلخ، فيقصد اجتهادهم في الفتوى ومخالفتهم له الرأي في المسألة، فهذا يعتبر مبتدعاً حتى لو كان عنده دليل شرعي!
فصاحب المقال يعتبر من يخالفه الرأي في مسألة خلافية من فروع الدين مبتدعاً حتى لو كان من أئمة السلف الصالح، ومن قرأ مقاله في الشهر الماضي تأكد له ذلك، حيث اعتبر “القنوت في صلاة الفجر بدعة منكرة”، وهو سُنة عند الإمام الشافعي يرحمه الله، ويسجد سجود السهو له عند نسيانه، ولنقرأ ما قاله أئمة السلف الحقيقيين عن الاختلاف بين العلماء: قال الإمام أحمد بن حنبل: “لا ينبغي للفقيه أن يحمل الناس على مذهبه ويشتد عليهم”، (الآداب الشرعية لابن مفلح، 1/166).
قال الإمام الحنبلي ابن قدامة المقدسي: “وجعل في سلف هذه الأمة أئمة من الأعلام، مهد بهم قواعد الإسلام.. اتفاقهم حجة قاطعة، واختلافهم رحمة واسعة” (المغني 1/1)، وقال ابن العربي: “إن العالم لا ينضج حتى يترفع عن العصبية المذهبية” (العواصم من القواصم لابن العربي).
ثامناً: يقول: “وما علم هؤلاء أن الذين نرد عليهم هم سبب من أسباب وهن الأمة وتسلط الأعداء عليها!”، نقول: كذلك من أسباب وهن الأمة وتسلط الأعداء عليها الانغلاق على النفس والتقوقع والتشدد في المسائل الخلافية، بل عدم الاعتراف بالرأي المخالف، واختزال الدين العظيم في جماعة معينة أو مذهب واحد، وعدم الاعتراف بفقه الأولويات وفقه الخلاف وفقه النوازل، وما تدارسه العلماء من البحوث والفتاوى لمعالجة ما يستجد على الساحة من المسائل؛ ليجدوا لها الحلول الشرعية، ولينهضوا بالأمة من كبوتها.
وأخيراً ندعو صاحب المقال ألا يمعن في الخصومة لإخوانه المسلمين، ويوغر صدورهم عليه، ويفرق كلمتهم وجمعهم، وينال من عقائدهم وجماعتهم، ويكون معول بناء في كيان الأمة الإسلامية لا معول هدم.
قال مفتي جمهورية مصر العربية السابق د. علي جمعة حفظه الله: “فهوية الإسلام لا يختلف عليها أحد، وهي المعلوم من الدين بالضرورة، والمسائل التي أجمعت عليها الأمة سلفاً وخلفاً شرقاً وغرباً، وهي حقيقة هذا الدين، وما دون ذلك من أمور اجتهادية يجوز للمسلم أن يتبع أياً من المذاهب.. إلخ” (كتاب البيان لما يشغل الأذهان، ص201).
وكل من الجماعات والمذاهب الإسلامية مجتهد فمصيب ومخطئ، وقريب من المنهج وأقرب، وبعيد وأبعد، وكما قال البوصيري يرحمه الله: “وكلهم من رسول الله ملتمس.. غرفاً من البحر أو رشفاً من الديم”، فأهل لا إله إلا الله كلهم على خير ما تمسكوا بالثوابت والأصول وإن اختلفوا في الفروع، فهم السواد الأعظم من المسلمين وهم الفرقة الناجية بإذن الله، كما حقق ذلك د. محمد الكيالي في كتابه القيم “الفرقة الناجية هي الأمة الإسلامية”، تصديقاً لما قلناه عن جماعة المسلمين، فقد قال شيخ الأزهر د. أحمد الطيب في مقابلة تلفزيونية: إنه لا يوجد حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “إذا وجدتم اختلافاً فعليكم بمذهب السلف، ولكن الحديث يقول: “إذا وجدتم اختلافاً فعليكم بالجماعة”، وأحاديث أخرى: “عليكم بالجماعة وسُنة النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين” (اهــ باختصار).
دعوة القرضاوي ومفتي السعودية.. وقوة الردع الإسلامية
اتفق الشيخان مفتي السعودية عبدالعزيز آل الشيخ والعلاَّمة يوسف القرضاوي على وجوب ردع “حزب الله” اللبناني لتعديه وبغيه على إخوانه المسلمين السوريين، وذلك استجابة للنعرات الطائفية والعصبيات الجاهلية، ولكن اختلف الشيخان في طريقة الردع، فالمفتي دعا العلماء والساسة إلى خطوات عملية في ردع هذا الحزب الطائفي، في حين دعا العلاَّمة القرضاوي إلى كل قادر على الجهاد أن يتوجه إلى سورية لنصرة المظلومين.
يقول العبد الفقير: هذا كلام طيب من علماء الأمة وخطاب لم نسمع بمثله من قبل في الاتفاق بين علماء الأمة على مواجهة الأزمات والمستجدات، أقول: إن هذه الخطوة على أهميتها، فإنها غير كافية خصوصاً بعد أن رأينا بشاعة ما حصل في معركة “القصير”، فهذا الحزب الطائفي استغل تخبط مجلس الأمن الدولي، وضعف الموقف العربي والإسلامي، وتفرق علماء المسلمين، واستغل وضعه كحزب وليس كجيش نظامي وجمع أنصاره من جميع الدول، فهؤلاء مسلمون بغاة تنادوا إلى الطائفية والمذهبية، مقابل مسلمين ضعفاء مظلومين أصحاب حق.
فأدعوا شيخينا الفاضلين أن يدعوا إلى اجتماع عاجل لجميع علماء الأمة ويكون مكانه المملكة العربية السعودية، وأن تكون حادثة القصير نقطة تحول لعلماء الأمة، والتوقع لما هو أسوأ منها مستقبلاً، وإعداد الحلول لها، فمثلاً: يتفقون على تكوين قوة ردع من مقاتلين متطوعين من جميع الدول الإسلامية، ومليشيات مدربة ليس لها علاقة بالجيوش النظامية أو ارتباط بسياسات الحكومات، وبعيدة عن مجلس الأمن الدولي، وتكون على غرار هذا الحزب الطائفي، وليس لها توجهات طائفية، وذلك لحل النزاعات التي تقع بين المسلمين وفي الدول الإسلامية، ويصعب وجود حل لها من المنظمات العربية أو الإسلامية أو الدولية.. ولكن هذه القوة الرادعة تعمل تحت إمرة هؤلاء العلماء وتحت إشراف منظمة الدول الإسلامية وشعارهم قوله تعالى: (وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الحجرات: 9)، وبذلك يكون الجهاد في سبيل الله عن طريق شرعي، ويكون قد أخذوا بذلك إذناً من ولي الأمر الممثل بعلماء الأمة الذين ينوبون عن ولاة الأمور، وثانياً: نرفع الظلم والبغي عن إخواننا المسلمين في أنحاء العالم، وهذا باعتقادي حل عملي رادع بدل أن نندب حظنا ونتأسف على إخواننا، ونكون تحت رحمة أعدائنا، فهل من مفت جريء وذكي يُخرج المسلمين من هذه المحنة، كما فعل العز بن عبدالسلام.
فإذا لم يأخذ العلماء بتطبيق فقه الواقع وفقه النوازل في حادثة القصير، بعد أن استنفذوا الصلح بينهم، فمتى إذاً؟ والله سبحانه وتعالى يقول في تتمة الآية: (فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ).
اللهم عجل فرجك لهذه الأمة، وأصلح أحوالها يا كريم.. والله أعلم، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
__________________________
العدد (2058)، 13 شعبان 1434هـ/ 22 يونيو 2013م، ص44-46.