مع استقبال عام هجري جديد، ومعايشة أحداث الهجرة النبوية الشريفة، ودروسها، تبدو الحاجة ماسة لقراءة التفسيرات الخاطئة من قبل بعض الجماعات المتطرفة التي أساءت فهم بعض أحداث الهجرة وأسقطتها على الواقع المعاصر بشكل خاطئ؛ ما أساء للإسلام والمسلمين.
«المجتمع» طرحت عدداً من التساؤلات، وفندت تلك القراءات، من خلال هذا التحقيق:
يقول د. نادي عبدالله، أستاذ الحديث بكلية الدراسات الإسلامية– جامعة الأزهر: إن هناك العديد من المفاهيم المغلوطة حول الهجرة النبوية، لم يتركها المتطرفون تمر عليهم وعلينا مروراً عابراً، بل إنهم سعوا جاهدين لاستغلال هذا الحدث لمصالحهم ودعاياتهم، فيستنبطون من هذا الحدث أن العالم كله اليوم أصبح «دار كفر» مثلما كانت الحال مع بداية الإسلام، وقبيل الهجرة النبوية، وقياساً عليه فليس في العالم اليوم «دار إسلام» إلا ديارهم، وبالتالي يجب شرعاً أن يهاجروا ويقاتلوا كل البشر لأنهم وحدهم المسلمون حقاً وخلفاء المسلمين الأوائل الذين رافقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل هجرته وأثنائها، ولا مانع لديهم –بل واجب شرعاً– أن يطلقوا على زعمائهم ألقاباً تشابه الصحابة الأوائل رضي الله عنهم، وخاصة الخلفاء الراشدين لاستلهام روح النصر والفتوحات الإسلامية الكبرى على يد المهاجرين الجدد من أتباع «داعش» و«القاعدة» و«بوكو حرام» وغيرها من الجماعات التي ما أنزل الله بها من سلطان.
ويضيف أن مزاعم تلك الجماعات بأن الهجرة واجبة شرعاً في كل زمان ومكان، كان المسلمون فيه مستضعفين –مثل المهاجرين الأوائل من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة– استناداً إلى قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) (النساء: 97)، وقصر مفهوم الهجرة في الآية على الهجرة من مكان لآخر فقط، تأويل وادعاء باطل.
دار الهجرة
ويرى جمهور المفسرين –وفق عبدالله- أن الهجرة ليست قاصرة على أن يهاجر الإنسان من وطنه إلى وطن آخر فقط مثلما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وليس معناها أن يفارق أهله ويخاصمهم، وإنما الهجرة المقصودة في الإسلام كانت بسبب ما قام به الكفار من عداوة الإسلام والمسلمين، والتربص بالضعفاء، وكانت الهجرة بتوجيه من الله تعالى، حيث أطلع الله سبحانه وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم على المدينة كدار الهجرة، فهل أطلع الله «داعش» وأخواته على أن دولتهم المزعومة أو أماكن إقامتهم هي دار الهجرة المعاصرة، وإنما كان التوجيه الإلهي لرسوله صلى الله عليه وسلم لإرساء دعائم الدولة الجديدة بالمدينة المنورة التي اختارها الله كبيئة صالحة لانطلاق الإسلام.
ويحذر د. عبدالله من متاجرة الجماعات المتطرفة بالمفاهيم والمصطلحات المتعلقة بالهجرة النبوية للتغرير بالشباب والفتيات –سواء العربي أو المسلم بل والمسلمين الجدد- وتجنيدهم، ولهذا نوضح لهم أن الهجرة كانت للخروج؛ لأن كفار مكة الذين هم أهل وعشيرة النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته كانوا كفاراً ظاهرين، يؤذون المسلمين ويتربصون بهم الدوائر، وهذا ليس له مثيل الآن، وقد تحدث علماء الأمة منذ القدم في معنى الهجرة وضوابطها، فقال الإمام السرخسي- من علماء الحنفية- أثناء حديثه عن الآيات والأحاديث التي تحدثت عن الهجرة، قائلاً: أما قبل فتح مكة فكان يفترض على كل مسلم في قبيلته أن يهاجر إلى المدينة ليتعلم أحكام الدين وينضم إلى المؤمنين في القيام بنصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الله تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ) (الأنفال: 72)، ثم انتسخ ذلك بعد الفتح بقوله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح، وإنما هو جهاد ونية»، وقال أيضاً: «المهاجر من هجر السوء، وهجر ما نهى الله تعالى عنه».
دار الكفر
ويرد د. حسن كمال، أستاذ الحديث بكلية الدراسات الإسلامية، عن مزاعم الحركات المتطرفة بأنه يجب شرعاً هجرة المسلمين الجدد في البلاد التي يدين غالبية سكانها بغير الإسلام باعتبارها دار كفر إلى المناطق التي يعيش فيها المتطرفون- وليس البلاد العربية والإسلامية- بأن الإسلام بريء من هذا الزعم؛ لأن هذا غير واجب شرعاً، فقد قال السادة المالكية عمن أسلم في بلاد غير المسلمين: إن إسلامهم صحيح؛ إن لم يهاجروا، لأن الهجرة إنما كانت من شرط صحة الإسلام قبل فتح مكة لقوله صلى الله عليه وسلم في الصحيح: «لا هجرة بعد الفتح»، وكان في أول الإسلام لا يتم إسلام من أسلم حتى يرتحل إلى المدينة، فلما فتح مكة قال: «لا هجرة بعد الفتح»، أما السادة الشافعية عندما تحدثوا عن شروط خروج المسلم من بلده إلى بلد آخر فقالوا: لا يخرج المسلم من بلده ما دام باستطاعته عبادة الله سبحانه وتعالى في مسكنه.
وهذا ينفي ما ادعاه المتطرفون، كما أن العالم كله الآن يكفل حرية الاعتقاد واعتناق أي دين للجميع، وأي إنسان يستطيع إقامة شعائر دينه بحرية تامة مكفولة بحكم الدستور دون تعرض ما دام لا يعتدي على ممتلكات خاصة أو عامة، وهذا ما نص عليه القرآن، فقال الله تعالى: (وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبِّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190).
وينهي كمال كلامه قائلاً: إن التنظيمات المتطرفة تؤمن باستمرار الهجرة إلى يوم القيامة باعتبارها واجباً شرعياً، ومن لم يفعله كافر ودمائه وماله وعرضه حلال استناداً إلى قول النبي صلى الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة حتَّى تنقطع التَّوبة»، وقاموا لتنفيذ ذلك بإجبار نسائهم وأطفالهم وأقاربهم وكل من لهم سلطة عليهم، فإذا اعترضوا فإن دماءهم حلال؛ لأنهم كفار رضوا بأن يعيشوا في دار الكفر ولم يهاجروا، حسب مزاعمهم.
ملك اليمين
ويتطرق د. محمد عبدالدايم، وكيل كلية الدعوة بالقاهرة– جامعة الأزهر، إلى انتشار مفهوم «ملك اليمين» وبيع وشراء النساء؛ لأن هذا سلوك كان منتشراً بين المسلمين في صدر الإسلام، وبالتالي يجوز للمسلم –خاصة المهاجر والمجاهد– مثل «الدواعش» ومن على شاكلتهم الاستمتاع بـ«ملك اليمين» بلا حدود، وإن لم يفعل ذلك فهو آثم شرعاً، لأنه خالف نصوصاً شرعية تبيح ذلك، فضلاً عن الزوجات الأربع الحرائر.
ويكشف عبدالدايم جانباً آخر من الإسقاط الخاطئ للجماعات المتطرفة بعض أحداث الهجرة على واقعنا المعاصر، مثل اتخاذ أسرى الحروب عبيداً بلا حقوق كاملة، مثل أسرى الحروب المعاصرة، وكذلك اتخاذ أسيرات الحروب «ملك يمين» أو سباياً بلا حقوق كأسيرات الحرب الآن، والغريب أنهم أخذوا بظاهر الحوادث دون الالتفات إلى دعوة القرآن الكريم إطعام الأسرى وحسن معاملتهم مثل قول الله تعالى: (وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً {8} إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) (الإنسان).
وينهي كلامه مؤكداً أن المتطرفين استباحوا دماء وأعراض الأسرى المسلمين -الذين حكموا بكفرهم- وحاولوا تأويل ذلك من خلال فهمهم المغلوط لقول الله تعالى: (مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 67).
كما جهلوا حسن تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع أسرى «بدر» -التي كانت بعد الهجرة بشهور قليلة- حيث أطلق سراح كل من علَّم عشرة من المسلمين القراءة والكتابة، والغريب، والكلام له، أن بعض التنظيمات المتأسلمة استباحت دماء وأعراض المسلمين -بعد تكفيرهم- في حين امتنعت عن قتل أهل الكتاب من المسيحيين، وكذلك اليهود، بحجة أن لهم ذمة وعهداً، استناداً إلى قول الله تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8)، في حين قامت جماعات أخرى بذبح مسيحيين ومسلمين، ولم يقربوا من «الإسرائيليين»؛ مما يؤكد أن بعض هذه الحركات والجماعات المتطرفة صنيعة صهيونية.