ظلت قضية المرأة المسلمة قضية شديدة التعقيد خاصة في فترات السقوط الحضاري في تاريخ الأمة، وظلت ورقة يتلاعب بها كل من أراد بالأمة سوءاً، وخضعت كذلك لكافة الابتزازات العلمانية في العصر الحديث والمعاصر، ظناً منها أن ذلك الخضوع للفكر الغربي الوارد سوف يعطيها جملة الحقوق التي طالما حسبت أن الدين سبب مباشر في حرمانها منها، وتم الخلط بين تعاليم الدين وجملة الموروثات والعادات المكتسبة كحرمانها من التعليم، على سبيل المثال، في بعض فترات التاريخ المرتبط بالهزائم والضعف، وحرمانها من حصولها على حقوقها المادية الكاملة من الميراث أو العمل، بل وحرمانها من القيام بالدور المنوط بها لنشر كلمة الله جنباً إلى جنب مع إخوانها من الرجال كفريضة ربانية في كتاب الله عز وجل، كما قال سبحانه: (فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُواْ وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ثَوَاباً مِّن عِندِ اللّهِ وَاللّهُ عِندَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ) (آل عمران: 195).
ولم تخرج المرأة في الحركة الإسلامية المعاصرة بعيداً عن تلك الإشكالية، بل ظلت تعاني كمثيلتها خارجها ولو بنسب متفاوتة من ظاهرة الإبعاد عن مواطن القيادة الفرعية واتخاذ القرار بالرغم من الدور الخطير الذي مارسته في بعض الأقطار الإسلامية في الثورات وحركات التحرر.
ويحسم الجدل في تلك الإشكالية دراسة السيرة النبوية وفقه مساراتها وتحليل الأحداث للوقوف على حقيقة ما أريد للمرأة المسلمة في وضع حجر أساس الأمة المحمدية التي قدر الله لها أن تسود العالم بما تحمله من رسالة باقية ببقاء الزمان.
مكانة المرأة في فجر الرسالة
تبوأت المرأة المسلمة مكانة لم تصل إليها غيرها في الشرائع الأرضية ولو في خيالها، وذلك من اليوم الأول لنزول الوحي، حين عاد رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغار يحمل الآية الأولى في رسالته للبشرية «اقرأ» على زوجته أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها، وتلقت الأمر بحكمتها ورشدها لتصطحب نبيها لابن عمها ورقة بن نوفل ليطمئنه، ولتبدأ معه حمل الرسالة من اليوم الأول بنفسها ومالها وعمرها.
ثم ها هي سمية بنت خياط ترفع لواء الشهادة بعد تعرضها لأشد أنواع التعذيب والتنكيل على يد أعتى الرجال شراً على وجه الأرض، فترتقي كأول شهيدة في الإسلام صابرة محتسبة دون انتظار تكليف، راضية بوعد نبيها: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة».
وها هي نسيبة بنت كعب تخرج مجاهدة تدافع عن دينها ونبيها في غزوة «أُحد» حتى يقطع ذراعها، فيقول لها رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من يطيق ما تطيقين يا أم عمارة؟»، فتقول: بل أطيق وأطيق وأطيق يا رسول الله، لتضرب أعظم آيات البطولة في الشجاعة والثبات.
المرأة والهجرة
وفي رحلة الهجرة المباركة، وفي ظل التخطيط شديد الحبكة والسرية لرسول الله صلى الله عليه وسلم، تؤتمن المرأة على أكبر أسرار الرحلة في مهمة استخباراتية خطيرة قد تودي بحياتها إذا انكشف أمرها أمام صناديد الكفر في مكة، فكانت أسماء بنت أبي بكر الصديق، زوجة الزبير بن العوام أم الصحابي عبدالله بن الزبير تجمع المعلومات من قريش، ثم تحمل الطعام إلى حيث يختبئ نبي الأمة وصاحبه في الغار، فتطلع على مكانهما دون خوف من أن تبح بالسر، رغم أنها كادت أن تضع وليدها في رحلة شاقة ذهاباً وإياباً حتى هدأت قريش عن البحث وخرج المهاجران للمدينة آمنين.
لم تستبعد المرأة من المهام الشاقة بحجة الحفاظ عليها، أو بحجة أنها لا تقدر على المواجهة وأضعف من الصمود، أو بحجة أن مهمتها البيت وليست مهمتها النضال وتعريض نفسها للخطر، فحين يمتهن الدين، وحين تحتاج إليها دعوة الله تعالى، فلم تنتظر المرأة دعوة للعمل، ولم تنتظر إذناً بالخروج، بل كانت حاضرة كالرجال بتكليف رباني دون شعارات جوفاء أو استنكارات فارغة.
دور المرأة في عصور الاضمحلال الحضاري
لست أبالغ إذا قلت: إنك حين تريد تقييم أي حضارة إنسانية، فانظر لحال المرأة ومكانتها في المجتمع لتعرف حاضر المجتمع وقوته وتأثيره وحجم خطواته المستقبلية، فبقدر ثقافة المرأة وعمق فهمها وحريتها في الاختيار، تكون ثقافة المجتمع وقوته وتقدمه وغناه أو فقره.
وحقوق المرأة ومكانتها ليست هبة من حاكم أو زوج أو والد، وإنما هي حقيقة ثابتة بثبوت كلام الله عز وجل وأحكامه، وعمل المرأة لدينها واجب عليها شرط ألا يخرج عن طبيعتها كأنثى ودورها كأم وزوجة ومربية، بل إن مهمة الأمومة وإعداد جيل مسلم يقوم بأعباء الأمة المنوطة به، ودورها كزوجة تعضد من مواقف زوجها ليكون رجلاً على قدر مسؤولية هموم أمته هي أعظم أدوار المرأة على الإطلاق.
ومرور الأمة بمحنتها في هذا العصر أدعى لأن تفقه دور المرأة الحقيقي، فالأمة لا تحتاج لسائقات قطارات، ولا تحتاجها في الحقول أو المصانع، ولا تحتاجها بالشارع تزاحم الرجال لسوق عمل لا يليق بها، إلا إذا كانت معلمة، أو طبيبة، أو عالمة تملك من العلم ما تتفوق به على غيرها من العلماء الرجال، ولا بائعة في محال تتعرض لنظرات المارة، بل تحتاجها أما تغرس القيم والأخلاق وعلوم القرآن والسيرة والتاريخ والعلم، تحتاجها دافعة للرجل في الكسب الحلال والجهر بكلمة الحق تثبته وترعاه وترفع عنه حرج الخوف على لقمة العيش.
وعلى الأجل، تحتاجها الأمة كداعية بين قريناتها من النساء، فتنشر الثقافة والعلم وتصنع حالة من الوعي في محيطها، فتفتح أكثر من بيت بحركتها الواعية الهادئة الصادقة الثابتة، تحتاجها الأمة كاتبة وفيلسوفة ومفكرة.
ولست أبالغ إذا قلت: إن خروج المرأة من كبوتها مرتبط بشكل مباشر بخروج المرأة من ضيق الأفق الذي وضعها فيه المستعمر البغي حين صور لنساء المؤمنين أن حريتهن في الانتفاضة على الحجاب والخروج من مملكتها لتصارع الرجال في أعمالهم تاركة البيت لمواقع التواصل الاجتماعي وللشبكة العنكبوتية ببرامجها المعقدة لتكون قناعاته وتتحكم بأخلاقياته فيخرج جيل مشوه بغير هوية أو مستقبل واضح.
إن المجتمع الإنساني له جناحان لا يمكن أن يتحرك بدونهما معاً، جناحاه الرجل والمرأة كل له مهمته الخاصة ليتزن المجتمع ويصح وينهض، وأي تعطيل أو تداخل في طبيعة مهمة أحدهما سوف يعطل المجتمع بأكمله، لقد أثبتت المرأة قدرتها الفائقة على التحرك والبذل في مجالها الذي جبلها الله عليه، فلا تعطلوها رحمة بالأمة في وقت تحتاج فيه لكافة جهود أبنائها.