إذا كان مستقبل أمتنا مرتهناً بصناعة جيل جديد يمتلك أدوات النصر، فإن ذلك الجيل لا يمكن صناعته إلا بعملية تربية عميقة ودقيقة وشاملة تستلهم رؤية الإسلام للوجود والحياة.
لذلك كانت السيرة النبوية النموذج الأعلى لكيفية تنزيل الرؤية الإسلامية على أرض الواقع، وفي تربية جيل جديد يكون هو نفسه التطبيق والممارسة للأفكار والقيم.
كيف يمكن لنا أن نعيد استلهام الدروس التربوية من السيرة النبوية، ونقوم بتنزيلها على العقبات الكؤود التي تواجهنا؟ هذا ما يمكن أن يجيبنا عليه كتاب «فقه السيرة» للشيخ محمد الغزالي، حيث يرى أن مراتب التعليم المختلفة مراحل جهاد متصل لتهذيب العقل وتقوية ملكاته وتصويب نظرته إلى الكون والحياة والأحياء.
الكتاب يتجاوز سرد الأحداث التاريخية للنبي صلى الله عليه وسلم من الميلاد إلى الوفاة، بل يمكننا القول: إن كتاب «فقه السيرة» أيضاً تجاوز عرض أحداث السيرة ثم التعقيب على كل حدث بالدروس المستفادة منه.
الكتاب يجعلك تعايش أحداث السيرة بقلبك وروحك ومشاعرك وأيضاً بعقلك وفكرك، يجعلك تخرج بدروسك التربوية وأنت تعايش السيرة النبوية وأنت مدرك للملابسات التاريخية والمجتمعية في القرن السابع الميلادي مرة، ويجعلك تعايشها وأنت في قلب تحديات القرن الحادي والعشرين مرة أخرى.
إن الهدف المركزي لكتاب «فقه السيرة» من الناحية التربوية أن نعيد بناء الصلة بنبي الإسلام في ضوء الفهم الشامل للكتاب والسُّنة، وليس متابعة أحداث سيرته تاريخياً.
إنك لن تفقه السيرة حقّا إلا إذا درست القرآن الكريم والسُّنّة المطهرة، وبقدر ما تنال من ذلك تكون صلتك بنبي الإسلام صلى الله عليه وسلم.
التربية والإصلاح
الهدف من كتاب «فقه السيرة» إصلاح واقع المسلمين في اللحظة الراهنة باتباع النهج النبوي التربوي التطبيقي للإسلام، وهو يواجه التحديات والعقبات من المشركين والمنافقين وأهل الكتاب، وحتى هذه التحديات النابعة من داخل الجماعة المؤمنة كمخلفات جاهلية أو ضعف هو جزء من الطبيعة البشرية.
لذلك نجد الشيخ الغزالي يخصص في بداية الكتاب نحواً من 50 صفحة من الكتاب البالغ عدد صفحاته 368 للحديث عن معنى الحب الحقيقي للنبي صلى الله عليه وسلم، وعلاقة ذلك الحب بالعمل والجهاد في ساحات الحياة.
السيرة والقدوة
الغزالي يقدم السيرة النبوية بصورة نابضة حية يسهل ممارستها والاقتداء بها، ويرفض من يقلل من بشرية الرسول صلى الله عليه وسلم فيصوره -معظماً له- كالأبطال الخارقين، حيث يرى الشيخ أن الشخصية الخارقة لا يقتدى بها، وهو أمر بالغ الأهمية للمربي والداعية؛ «ما كان محمد عليه الصلاة والسلام رجل خيال يتيه في مذاهبه ثم يبني حياته ودعوته على الخرافة، بل كان رجل حقائق يبصر بعيدها كما يبصر قريبها، فإن أراد شيئاً هيأ له أسبابه وبذل في تهيئتها -على ضوء الواقع المر- أقصى ما في طاقته من حذر وجهد».
إن محمداً وصحبه تعلموا وعلموا، وخاصموا وسالموا، وانتصروا وانهزموا، ومدوا شعاع دعوتهم إلى الآفاق، وهم على كل شبر من الأرض يكافحون، لم ينخرم لهم قانون من قوانين الأرض، ولم تلن لهم سنة من سنن الحياة، بل إنهم تعبوا أكثر مما تعب أعداؤهم، وحملوا المغارم الباهظة في سبيل ربهم، فكانوا في ميدان تنازع البقاء أولى بالرسوخ والتمكين.
وقد لقنهم الله عز وجل هذه الدروس الحازمة حتى لا يتوقعوا محاباة من القدر في أي صدام، وإن كانوا أحصف رأياً من أن يتوقعوا هذا، ثم نجده يقوم بتوكيد هذه الفكرة في كل موقف عملي في تفاصيل الهجرة، وفي غزو «بدر»، وفي «أُحد»، و«يوم الأحزاب»، و«يوم حنين»، ولعل هذا يحل مشكلة ضخمة يعاني منها شبابنا ممن تعرضوا للابتلاء ويلح عليهم السؤال: لماذا لم ننتصر؟!
حقيقة الدعوة
ومن المفاتيح الكبرى لإدراك الغاية من كتاب «فقه السيرة» للشيخ الغزالي هو شرحه لطبيعة هذا الدين وطبيعة وحقيقة الدعوة، فنجده يشرح مبادئه الكبرى منذ اللحظة الأولى للوحي، وفي سنوات الدعوة الشاقة بمكة، وفي رحلة الطائف المضنية، وفي حادث الإسراء والمعراج، وهو يشرح معنى الأذان، وأثناء الغزوات والهدف منها، وما يرتبط به مفهوم الجهاد من إزالة العقبات التي تعترض وصول الدعوة وليس إجبار الناس على القبول بها.
الشيخ الغزالي لا يأبه في هذا الكتاب بالرد على المستشرقين ولا الدفاع عن الدعوة أمام المتشككين فيها، وإنما شرحها للمؤمنين بها والذين تشوشت الرؤية أمام أعينهم قليلاً أو كثيراً؛ بمعنى آخر كتاب «فقه السيرة» هو رسالة للمربي والداعية تشرح له طبيعة المنهج في مواقف حياتية مختلفة بعضها هادئ وبعضها بالغ الصعوبة، ويوضح في كل موقف منها كيف فعل النبي صلى الله عليه وسلم.
التربية بالحب
لا يكفي الاقتناع العقلي بسلامة الفكرة حتى تستقر في الوجدان، وهكذا هي العبادة أو كما يقول الشيخ الغزالي: «العبادة ليست طاعة القهر والسخط، ولكنها طاعة الرضا والحب.. والعبادة ليست طاعة الجهل والغفلة، ولكنها طاعة المعرفة والحصافة»، لذلك «فالمسلم كل المسلم هو الذي يعرف الله معرفة اليقين، ويضم إلى هذه المعرفة إحساساً يعترف بمجادة المجيد ونعماء المنعم، تباركت أسماؤه، والإيمان هو الإيمان المنتج، وهو صانع العجائب وباني الدول ومقيم الحضارات السنية، وهو الذي يجعل الفرد يستحلى التكاليف المنوطة بعنقه، فيقبل على أدائها وكأنها رغبات نفس لا واجبات دين»، إنه أهم دروس التربية «التربية بالحب»؛ حب الله تعالى المنعم القدوس وحب النبي صلى الله عليه وسلم؛ «وقد كان محمد صلى الله عليه وسلم أهلاً أن يُحب».
وينبغي للمربي أن يثمن من قيمة الحب في عمله التربوي، ويستلهم من السيرة ما يكون له زاد، يقول الشيخ الغزالي معلقاً على التآخي بين المهاجرين والأنصار: «إن الحب كالنبع الدافق يسيل وحده ولا يتكلف استخراجه بالآلات والأثقال، والأخوة لا تفرض بقوانين ومراسيم، وإنما هي أثر تخلص الناس من نوازع الأثرة والشح والضعة».
وكانت النتيجة الباهرة لهذه التربية القائمة على الحب والمؤاخاة أن ارتفعت الهمم، يعلق الشيخ الغزالي على رد فعل أبناء الصحابة الصغار حين عاد خالد بن الوليد بالجيش المسلم بعد غزو «مؤتة» واستنكارهم العودة واعتبارها فراراً بقوله: «أي جيل قوي نابه هذا الجيل الذي صنعه الإيمان بالحق؟! أي نجاح بلغته رسالة الإسلام في صياغة أولئك الأطفال العظام؟! من آباؤهم؟ من أمهاتهم؟! كيف كان الآباء يربون؟! وكيف كانت الأمهات يدللن؟!».
نحن بحاجة ماسة لقراءة هذا الكتاب حتى تتضح لنا بعض الإجابات عن هذه الأسئلة الضخمة المتعلقة بصناعة جيل جديد للنصر.