أوطانُ الناسِ قطعٌ من أكبادهم، وحبُّها أمرٌ فطري جُبلوا عليه، وهكذا جميع المخلوقات؛ فالطير والأنعام والأسماك وغيرها سرعان ما تعود إلى بلادها التي تركتها من أجل السعي على الرزق، مهتدية بفطرتها إلى أوطانها التي وُلدت على أرضها وترعرعت بين جنباتها.
والوطنُ هو مهدُ الصبا، ومدرج الخطى، ومرتع الطفولة، وملجأ الكهولة، وموطن الآباء والأجداد، والأبناء والأحفاد.. وهو يحقق معنى الاستخلاف في الأرض (هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا…) [هود:61]، ويُروى أن النبي ﷺ ودَّع مكة، وطنه، حين الهجرة، وداع الآسف على فراقها وترْكِها، عن عبد الله بن عباس -رضي الله عنهما- عن النبي ﷺ: «ما أطيبك من بلد، وأحبك إليَّ، ولولا أن قومي أخرجوني منك ما سكنتُ غيرك» [الترمذي].
وحبُّ الأوطان من الإيمان، ولا يتخلى عن وطنه إلا منافق شديد النفاق، جاحد لا يستحق العيش على أرضه، ومن الإيمان معرفة أفضال الوطن وضرورة رد الجميل إليه (هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ) [الرحمن: 60]، أما خدمة الوطن ورفعته والتصدي لما يضره والدفاع عنه وقت الحاجة فهي فرضٌ لا جدال فيه.
للمسلم وطنان
والوطن بالنسبة للمسلم وطنان: وطن أصغر، وهو الأرض التي وُلد فيها ونشأ وتربّى عليها، وهي ذات حدود جغرافية معروفة، أما الوطن الأكبر فهو كل بلد يُذكر فيه اسمُ الله، كما قال الشاعر: (وأينما ذُكر اسمُ الله في بلد… عددتُ أرجاءه من صُلب أوطاني)، وحدود الوطنية الإسلامية هي العقيدة وليست الحدود الجغرافية التي صنعها المحتلّ، وإذا كان البعض يعلي من قيمة الوطنية، فإن العقيدة تستوعب جميع هذه القيم، فبداخلها وطنية الحنين، ووطنية الحرية والعزة، ووطنية المجتمع التي تقوِّي الرابطة بين أفراد القطر الواحد، والإسلام لا يعترف –من ثمَّ- بقبلية أو عصبية، بل يعتبرهما جاهلية، وهذا ما جعل «سلمان» يفتخر بإسلامه الذي حطّم القيود، وأزال الفروق، وجعل العرب كالفرس، والفرس كالأعاجم، سواء بسواء.
إن قيم الإسلام في حقوق الإنسان وحريته تستوعب قيم المواطنة المعاصرة جميعًا، بل تتجاوزها بكثير؛ حيث له قصب السبق في إفساح الحرية للفرد في الرواح والمجيء، وحمايته من أي اعتداء، وحريته في إبداء رأيه، والاحتفاظ بعقيدته، فضلًا عن حُرمة دمه وعرضه وغيرها من معاني الحرية. لقد أعطى الإسلام الإنسان -أي إنسان- الحق في الحياة، وحرّم الاعتداء عليه؛ (وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) [الأنعام: 151]، وشرع القصاص أيضًا في الأطراف والجروح، وحتى في اللطمة واللكزة..
والولاء للوطن ليس منافيًا للولاء للدين، في حدود الضوابط الشرعية الممكنة، فلا يوالي المسلم في تبديل دينه، فهذا أمرٌ لا مساومة فيه. الإسلام لا يلغي الوطنية كانتماء إلى وطن، ولا يلغي القومية كانتماء إلى أمة، وانتماء المسلمين إلى الأمة الإسلامية لا يلغي انتماءهم إلى أوطانهم المحلية؛ ذلك أن الإسلام أقر التعدد؛ (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آَتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ) [المائدة: 48].
الهُوية ليست ضد المواطنة
والهُوية ليست ضد المواطنة، بل هي لازمة لها؛ لأن المواطنين لا بد لهم من نظام سياسي وعلاقات اقتصادية واجتماعية، وقوانين تضبط هذه العلاقات، وهذا يتطلب وجود هُوية، ومعتقدات وقيم، والوطن الذي ينتسب إليه المواطنون ليس هو الذي يحدد هُويتهم، فالوطن الواحد تتعاقب عليه نظم مختلفة، وربما متناقضة.
إذًا: مهما كان الإخلاص للوطن؛ فإن الهُوية تسبق ذلك، وتعدد الهُويات في عدد من الأوطان يوسِّع دائرة الوطن (الاتحاد الأوروبي)، عكس ما يدّعي البعض من أن تعدد الهويات في الوطن الواحد يؤدي إلى تمزيقه، وفي المواطنة المعاصرة تكون القيم الدينية لكل مجموعة بشرية محترمة ومقبولة، وهذا يلتقي مع المفهوم الإسلامي للتعايش البشري.
الإسلام يعزّز المواطنة
وإذا كان الإسلام قد عزز رابطة الأُخوة بين المسلمين، وجعلها تتجاوز الزمان والمكان، وأنزل الله في شأنها آيات صريحة، مثل قوله تعالى (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) [الحجرات: 10]، (لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ) [آل عمران: 28] -فإن هذا لا يناقض المواطنة، بل يعززها؛ إذ إن غير المسلمين في المجتمع المسلم لا تطبق عليهم هذه الآيات، إنما تطبق على المعتدين على الإسلام، المحاربين لأهله.
بل المسلمُ مطالبٌ بأن يتعامل مع الناس في جلب المصالح، ودرء المفاسد، وتبادل عواطف الود «البلاد بلاد الله، والعباد عباد الله، فحيثما أصبتَ خيرًا فأقم»، «يا فديك، أقم الصلاة، وآت الزكاة، واهجر السوء، واسكن من أرض قومك حيث شئت»، ولا حرج في أن يتعامل مع الناس وفقًا لقانون الأخلاق وحسن العشرة، بالكلمة الطيبة والعمل الصالح.
أما الزعم القائل بأن هذا المبدأ الإسلامي يمزق وحدة الأمة التي تتألف من عناصر دينية مختلفة، فإن الإسلام، وهو دين الوحدة والمساواة، كفل هذه الروابط بين الجميع ما داموا متعاونين؛ (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الممتحنة: 8]، فمن أين التفريق إذًا؟!