القدس في الرؤية الإسلامية ليست مجرد أرض محتلة، ومدينة مغتصبة، وإنما هي مع ذلك وفوقه وقبله وبعده جزء من العقيدة الدينية الإسلامية، فضلًا عن الحضارة والتاريخ؛ ذلك لأنها حرم مقدس، ربط القرآن الكريم بينها وبين الحرم المكي عندما تحدث عن معجزة الإسراء والمعراج: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) (الإسراء: 1).
فهي في الدين والعقيدة أولى القبلتين وثالث الحرمين وحرمها مع الحرم المكي والحرم المدني يمثلون المساجد الثلاثة التي تنفرد بشد الرحال للصلاة فيها ورباطها المقدس مع الحرم المكي هو الرمز المجسد لعقيدة وحدة الدين الإلهي الواحد، عندما ارتبطت القبلة الخاتمة الحرم المكي بقبلة النبوات السابقة الحرم القدسي الشريف.
ولقد تجلت هذه المكانة المقدسة للحرم القدسي الشريف عندما عاملها المسلمون- على مر التاريخ- معاملة «الحرم» الذي لا يجوز فيه القتال.. فالحرم المدني فُتح بالقرآن.. والحرم المكي فُتح سلمًا، حتى لقد دخله الرسول الفاتح صلى الله عليه وسلم يوم الفتح الأكبر ساجدًا على راحلته شكرًا لله.. والحرم القدسي حرص المسلمون على فتحه سلمًا وصلحًا، وجاء فتسلم مفاتيحه الراشد الثاني الفاروق عمر بن الخطاب (40 ق.هـ- 23 هـ/ 584- 644م).. ولقد سار على هذه السنة صلاح الدين الأيوبي (532- 589هـ/ 1137- 1193م) عندما استردها من الصليبيين (583هـ 1187م).. بعد ما يقرب من تسعين عامًا احتكروها فيها وانتهكوا حرمتها وقد سبقها.
ولقد كان القدس الشريف على مر تاريخ الصراع بين الغرب الصليبي والشرق الإسلامي هو رمز هذا الصراع وهو بوابة الانتصارات حتى لقد لخص الشاعر العماد الكاتب (519- 597هـ/ 1125- 1201م) هذه الحقيقة من حقائق إستراتيجية هذا الصراع، عندما قال لصلاح الدين الأيوبي:
وَهَيَّجْتَ للبيت المقدس لوعة *** يطول بها منه إليك التشوق
هو البيت، إن تفتحه، والله فاعل *** فما بعده باب من الشام مغلق
ولقد حرص المسلمون عندما حرروا القدس (15هـ- 636م) من الاستعمار الروماني الذي دام عشرة قرون على أن يكون اسمها عنوانًا على قداستها وقدسيتها، فسموها (القدس) و(القدس الشريف) و(الحرم القدسي الشريف) كما حرصوا بحكم إسلامهم، الذي تفرد بالاعتراف بالآخرين عقائدهم ومقدساتهم على إشاعة قد سيتها بين كل أصحاب المقدسات.. فجعلوها حرمًا مقدَّسًا وقدسيًّا لكل أصحاب الديانات السماوية، حتى لقد كانت السلطة الإسلامية هي الضمان لمصلحة الجميع، فلم تحتكرها للإسلام، كما احتكرها الرومان لوثنيتهم عندما كانوا وثنيين ولمذهبهم النصراني عندما تنصروا وكما احتكرها الصليبيون الكاثوليك إبان الاحتلال الصليبي وكما يحتكرها اليهود ويهوِّدونها هذه الأيام.
وكما كانت العقيدة الإسلامية التي تفردت وتميزت وامتازت بالاعتراف بالآخرين وبحماية مقدساتهم انطلاقًا من تعهد رسول الله صلى الله عليه وسلم للنصارى في عهده مع نصارى نجران سنة 10هـ- 631م بحمايتهم وحماية مقدساتهم:
«وأن أحمي جانبهم وأذبّ عنهم، وعن كنائسهم وبيعهم وبيوت صلواتهم، ومواضع الرهبان، ومواطن السياح، حيث كانوا.. وأن أحرس ملتهم ودينهم أين كانوا.. بما أحفظ به نفسي وخاصتي، وأهل الإسلام من ملتي»(1).
ومن ثم أشاع الإسلام والمسلمون قدسية القدس بين كل أصحاب المقدسات.
فلقد كانت الأساطير النصرانية الغربية واليهودية هي المنطلق لغزو القدس ولاحتكارها بالإبادة والمجازر التي تقشعر منها الأبدان.
فأساطير التعصب الصليبي هي التي دفعت البابا الذهبي (أوربان الثاني) [1088- 1099م] لتغليف الأطماع الاستعمارية بالأساطير اللاهوتية فخطب في أمراء الإقطاع الأوروبيين بمدينة (كليرمونت) بجنوبي فرنسا سنة 1095م مفتتحًا قرنين من الحروب الصليبية [489- 690هـ/ 1096- 1291م] ضد الإسلام وأمته وحضارته فقال:
يا من كنتم لصوصًا، كونوا اليوم جنودًا..! لقد آن الزمان الذي فيه تحوّلون ضد الإسلام تلك الأسلحة التي أنتم لحد الآن تستخدمونها بعضكم ضد بعض فالحرب المقدسة المعتمدة الآن هي في حق الله عينه وليست هي لاكتساب مدينة واحدة بل هي أقاليم آسيا بجملتها، مع غناها وخزاينها العديمة الإحصاء.
فاتخذوا محجة القبر المقدس، وخلِّصوا الأراضي المقدسة من أيادي المختلسين، وأنتم املكوها لذواتكم، فهذه الأرض- حسب ألفاظ التوراة- تفيض لبنًا وعسلًا. ومدينة أورشليم هي قطب الأرض المذكورة والأمكنة المخصبة المشابهة فردوسًا سماويًّا.
اذهبوا وحاربوا البربر -يقصد المسلمين- لتخليص الأراضي المقدسة من استيلائهم.. امضوا متسلحين بسيف مفاتيحي البطرسية -أي: مفاتيح الجنة التي صنعها البابا!- واكتسبوا بها لذواتهم خزائن المكافآت السماوية الأبدية. فإذا أنتم انتصرتم على أعدائكم فالمُلْك الشرقي يكون لكم قسمًا وميراثًا.
وهذه هو الحين الذي فيه أنتم تفدون عن كثرة الاغتصابات التي مارستموها عدوانًا.. من حيث إنكم صبغتم أيديكم بالدم ظلمًا، فاغسلوها بدم غير المؤمنين(2)!
وعندما اقتحمت الجيوش الصليبية -يومئذٍ- مدينة القدس [492هـ 1099م] أبادوا جميع من بها من المسلمين- ومعهم اليهود- بالقتل والذبح والحرق.. حتى الذين احتموا بمسجد عمر- مسجد قبة الصخرة- ذبحهم الصليبيون في المسجد.. حتى تحول المسجد إلى بحر من الدماء! وبعبارة صاحب [حرب الصليب]:
“فإن الصليبيين- خيَّالة ومشاة- قد دخلوا الجامع المذكور، وأبادوا بحد السيف كل الموجودين هناك.. حتى استوعب الجامع من الدم بحرًا متموجًا، علا إلى حد الركب، بل إلى لُجُم الخيل!
ولما حل المساء اندفع الصليبيون يبكون من فرط الضحك!! بعد أن أتوا على نبيذ المعاصر!! إلى كنيسة القيامة، ووضعوا أكفهم الغارقة في الدماء على جدرانها ورددوا الصلوات!!.. ثم كتبوا إلى البابا فقالوا له: يا ليتك كنت معنا لتشهد خيولنا وهي تسبح في دماء الكفار- [أي المسلمين]!”(3)
وحتى كبار رجال الدين.. شاركوا في المذبحة.. ليتقربوا إلى ربهم بذبح المسلمين!!.. ولقد نقلت المستشرقة الألمانية الدكتورة سيجريد هونكه [1913- 1999م] عن المؤرخ الأوربي (ميشائيل درسيرر):
“كيف كان البطريرك نفسه يعدو في أزقة بيت المقدس، وسيفه يقطر دمًا، حاصدًا به كل من وجده في طريقه، ولم يتوقف حتى بلغ كنيسة القيامة وقبر المسيح، فأخذ في غسل يديه تخلصًا من الدماء اللاصقة بها، مرددًا المزمور التالي: «يفرح الأبرار حين يرون عقاب الأشرار، ويغسلون أقدامهم بدمهم، فيقول الناس: حقًّا إن للصديق مكافأة، وإن في الأرض لها يقضي»-[المزمور 58: 10- 11]- ثم أخذ في أداء القداس قائلًا: إنه لم يتقدم في حياته للرب بأي قربان أعظم من ذلك ليرضى الرب”(4)!
هكذا بدأت الأساطير النصرانية الغربية حول القدس.. وهكذا وضعها الصليبيون في الممارسة والتطبيق.
وهذه الأساطير النصرانية الغربية هي التي دفعت (كريستوفر كولمبس) [1451- 1506م]- بعد هزيمة الحملات الصليبية في المشرق.. وعقب نجاح الصليبيين في إسقاط غرناطة في يناير سنة 1492م- أي أن يسعى إلى القيام بغزوة صليبية جديدة يعيد بها اختطاف القدس من الإسلام والمسلمين.. فكتب إلى ملكَيْ إسبانيا (فرديناند) [1479- 1516م] و(إيزابيلا) [1474- 1504م] يقول:
“إن هدفه هو العثور على الذهب بكميات كبيرة حتى يتسنى للملكين أن يفتحا الديار المقدسة خلال ثلاث سنوات.. فقد أعلنتُ لسموّكما أن كل المغانم التي سيدرّها مشروعي عذا سوف تنفق على فتح القدس. وقد ابتسمتما- يا صاحبي الجلالة- وقلتما: إن ذلك يسرّكما..”(5).
وفي رسالة ثانية تحدث (كولمبس) إلى ملكي إسبانيا عن أن هدف حياته ومشاريعه ورحلاته هو تجهيز حملة صليبية لإعادة القدس إلى الكنيسة الكاثوليكية.. فقال:
“لقد مكثت في بلاطكم سبعة أعوام مناقشًا هذا الأمر مع العديد من الرجال.. ولهذا فيجب علينا أن نؤمن بأن أمر القيام بحملة صليبية لاستعادة مدينة القدس، لهو أمر سوف يتحقق بالفعل.. لقد قال به يسوع المسيح المخلص، وذكره من قبل رسالة المقدسين..
لقد ذكر الكاردينال (بيير) الكثير عن نهاية المسلمين، كما أن الأب (يواقيم الفيوري) قد ذكر أن الشخص الذي سيقوم بإعادة بناء الضريح المقدس للمسيح، فوق جبل صهيون بالقدس، سوف يخرج من إسبانيا.. فلتكونوا واثقين من إحراز النصر في مسألة استعادة الضريح المقدس ومدينة القدس إلى أحضان الكنيسة الكاثوليكية!”(6).
تلك هي الأساطير النصرانية الغربية- حول القدس- كما آمن بها (كرستوفر كولمبس)- الذي لا تزال تدرّسه لأبنائنا في المدارس باعتباره من عظماء المستكشفين الجغرافيين!
ولقد أدخلت البروتستانتية (البعد اليهودي) إلى هذه الأساطير- المحركة لاختطاف القدس وفلسطين- وذلك عندما أصدر (مارتن لوثر) [1483- 1546م] سنة 1523م كتابه (المسيح يهوديًّا) وقال فيه:
“إن الروح القُدُس أنزل كل أسفار الكتاب المقدس عن طريق اليهود وحدهم. إن اليهود هم أبناء الله، ونحن الضيوف والغرباء؛ ولذلك فإن علينا أن نرضى بأن نكون كالكلاب التي تأكل مما يتساقط من فتات مائدة أسيادها”(7)!
_________________________________
(1) ص 123، 124- تحقيق: د. محمد حميد الله الحيدر آبادي- طبعة القاهرة سنة 1956م.
(2) مكسيموس مونروند [تاريخ الحروب المتقدمة في السرق، المدعوة حرب الصليب]- المجلد الأول ص12- 14- ترجمة: مكسيموس مظلوم- طبعة أورشليم سنة 1815م.
(3) المصدر السابق- المجلد الأول ص 172- 175.
(4) سيجريد هونكه [الله ليس كذلك] ص 25- 34- ترجمة: د. غريب محمد غريب- طبعة دار الشروق- القاهرة سنة 1995م.
(5) صحيفة [الأهرام] في 28/ 4/ 2004م- مقال [أول إسرائيل آخر أمريكا] لأحمد عبد المعطي حجازي.
(6) د. حاتم الطحاوي [وثيقة نارة: بعد غرناطة جاء دور القدس]- مجلة (العربي)- الكويت- العدد 532- مارس سنة 2003م- ص 62- 67.
(7) محمد السماك [الأصولية الإنجيلية أو الصهيونية المسيحية والموقف الأمريكي] ص36- طبعة مركز دراسات العالم الإسلامي- مالطا- سنة 1991م.
المصدر: «مجلة الأزهر»، 12 أبريل 2015.