«نحن في زمن السرعة»؛ عبارة يرددها البعض في معرض التحفيز أو الإنجاز أو اللوم وما شابه، لكن هل فكرنا حقًا ما وراء هذه السرعة التي قد تكون لدى الكثير مفخرة من مفاخر الإنجاز الإنساني المُدهِش؟
لا شك أن لكل شيءٍ سلبياته وإيجابياته، والعاقل من استعرض هاتين الصفحتين إزاء أي أمرٍ ليرى مدى الاستفادة من الإيجابيات، والحذر من السلبيات، وهذا مسار ما يُسمى «أفضل الممارسات».
دعونا نتأمل في بعض مفردات «حياة السرعة» ضمن عجلة الحياة، ولنرى مدى ما يمكن أن نخرج به من وقفات مُستحقَّة.
إدمان السرعة
هذه وسائل النقل من سيارات وطائرات وقطارات.. إلخ؛ من وسائل السرعة التي يحبها الإنسان الحديث كثيرًا، إذْ تختصر الوقت والجهد وأحيانًا المال، بالإضافة إلى تنعُّم الراكب بوسائل الراحة التفصيلية في تلك الوسيلة أو تلك، لكن في المقابل؛ كم الثمن الذي يدفعه الإنسان جرَّاء استمتاعه بالركوب على حساب المشي؟ حتى ليصل الكثير يومًا ما إلى توقف جسمه عن العمل والحركة، هذا عدا الأمراض العديدة التي قد يُصاب بها، وخصوصًا الأمراض المزمنة.. “فمرض السكري مثلًا يتسبَّب فيه ويزيده قلَّة النشاط البدني وعدم الحركة، كما أن جلوس الفرد لفترات طويلة يؤدي إلى الحدِّ من قدرة العضلات على حرق الدهون؛ مما يزيد من احتمالية حدوث الانسداد والإصابة بمرض الشريان التاجي والإصابة بأمراض القلب الوعائية(1).
حال الإنسان غداً اليوم مثل المذعور وكل شيء يريده ويبحث عنه ويستعد للتعامل معه فقط هو في حدود «السرعة»
هذا على المستوى الذاتي أو الفردي للإنسان، ومن ضمن التأملات على المستوى الجماعي؛ فكم الثمن الذي تدفعه البشرية من الانبعاثات الغازية من شتى المركبات والآلات؟
بحسب منظمة الصحة العالمية فإن «جميع سكان العالم تقريبًا (99%) يتنفسون هواءً يتجاوز حدود المبادئ التوجيهية للمنظمة، ويحتوي على مستويات عالية من الملوثات، وتعاني البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل من أعلى معدلات التعرض لتلوث الهواء»(2).
لنتأمل في الهاتف النقال أيضًا، والذي يُعد اليوم الاختراع الأكثر ملازمة للإنسان. لا شك في إيجابياته الكثيرة، ولكن لننظر إلى مدى تأثيره سلبًا على الكبير والصغير؛ سواء من جهة الإدمان العجيب إلى حدٍ لا يمكن لكثيرٍ أن يترك جواله حتى في الحمام! والجميع اليوم يرى المعاناة العائدة على الإنسان؛ صحيًا، وعقليًا، وسلوكيًا.. إلخ.
هذا بتأمل في جانب واحد فقط، فكيف إذا تأملنا في المسائل الأخرى لهذا الجهاز المذهل؟ ويكفي أن نشير إلى تنفيذ العديد من الدراسات التي تبيِّن الآثار السلبية الناتجة عن إدمان استخدام الهاتف الذكي، وذلك على المستوى الشخصي؛ من قبيل: ضعف البصر، وضعف السمع، وتقوس العمود الفقري، والصداع، إضافة للأمراض النفسية مثل: القلق، والعصبية، واضطرابات النوم، أما على المستوى الاجتماعي والأسري؛ فأمراض مثل: سوء العلاقات بين الأزواج، وزيادة معدلات الطلاق، وتباعد أفراد الأسرة الواحدة، وضعف العلاقة بين الأب والأبناء، وتصاعد نسب الانحراف السلوكي، وإهمال تربية الأبناء، وعلى المستوى القيمي والسلوكي نجد: تبنِّي الأفكار المضللة، واكتساب عادات وقيم سلبية، ومشاهدة المحتوى اللاأخلاقي، وفقدان الهوية، وعلى المستوى الاقتصادي إشكالات مثل: إهدار الأوقات في غير العمل الجاد، وسوء الإنتاج، والإنفاق على الأجهزة الإلكترونية وتشغيلها.
وتلك الشبكة العنكبوتية وما فيها من عجائب، وما فيها من أدوات عديدة، والتي هي في توسع وتطور مستمر؛ فحدث ولا حرج عمَّا جنته سلبًا بجميع وسائلها، وهذا حديثنا بالطبع عمَّن يستخدم هذه الوسائل استخدامًا سيئًا.
ومن عجائب هذه الأجهزة السريعة؛ المكوث الطويل معها وبصحبتها بعكس التعامل مع الوسائل الأخرى الأصيلة، إذْ يمكن للإنسان قضاء ساعات معها، بينما لا يصبر على دقائق مع مصحفٍ أو كتاب أو حتى في صلاة!
أخبرتني إحدى الصديقات أنها لم تبقَ مبتعدة عن التصفح والمتابعة في الإنترنت لمدة ساعتين متواصلة، بل كانت بين كل فينة وأخرى لابد وأن تدخل على هذا العالم؛ أول ما تستيقظ من نومها، وقبل نومها أيضًا، وأثناء الطريق، وبين كل عملٍ وآخر!
عصر السرعة وأدواتها تتطلب انتباهاً جادًا وتداركًا متوازنًا قبل أن يفقد الإنسان ذاته كليًا
أنا الآن أكتب هذا المقال عبر الوسائل الإلكترونية (السريعة)، فأنا لا أدعو إلى هجرها أو تركها؛ ولكن التأملات التي نشير إليها بهدف تنظيم الذات والوقت، والتركيز على الأهم فالمهم، وحسن استثمار الوسائل، والاهتمام بالأشياء الأصيلة؛ سواء في مجال العلم والتعليم، أو الاجتماعيات، أو حتى الألعاب.. إلخ.
هذا الزمن العجيب تجد فيه أخوك وأختك المسلمة الذين أنعم الله عليهم بنعمة الهدى والرشاد، وهم حتى في المسجد لا يكادون ينفكَّون عن مطالعة الجوال؛ قبل الصلاة وبعدها مباشرة، إلى درجة تجعل الإنسان العاقل يشمئز من هذه الحالات! كيف سيكون عقل هذا وقلبه في الصلاة؟ وكم سيكون حظ الخشوع لديه واستحضار معية الله واستشعار أنه أمام ربه تبارك وتعالى!
حدث لي موقف تكرر مع عدد من الأشخاص.. في الكثير من الأوقات أتحدث مع إحدى صديقاتي حول أحد المواضيع، فأقول لها: سأرسل لك بعض القنوات والمحاضرات التي ستفيدك في هذا المجال، فتجيب على الفور: المهم ألَّا تكون طويلة، أنا أمل من الأشياء الطويلة، ليس عندي صبر!
حتى مع استخدامنا للوسائل الإلكترونية التي تم اختراعها أصلًا للسرعة والإنجاز؛ لم يعد لدينا صبر على ما فيها من خير إلا إذا كان المحتوى أسرع مما يمكن! لهثًا وراء اللاشيء!
بسبب كل تلك السرعة وما تحتوي عليه من أدوات سريعة جدًا؛ غدا حال إنسان اليوم مثل المذعور، وكل شيء يريده ويبحث عنه ويستعد للتعامل معه فقط هو في حدود «السرعة».
7 نصائح للتقليل من العالم الافتراضي
إنه عصر السرعة وأدواتها التي جنينا بها على أنفسنا، والتي تتطلب انتباهاً جادًا وتداركًا متوازنًا قبل أن يفقد الإنسان ذاته كليًا، وإذا كان من نصيحة نحاول تطبيقها بكل عزم وإصرار؛ فقد رأيت تلخيصها في النقاط التالية تسهيلًا للعمل بها على الفور لمن أراد أن ينأى بنفسه وذويه إلى بر الأمان؛ وهي:
الانشغال بالأعمال والمهام الجادة وإيلائها الأولوية، وخصوصًا ما كان منها عمليًا وحركيًا أو ما أمكن تنفيذه بنشاط بدني وذهني واقعي بعيدًا عن العالم الافتراضي.
تنظيم وقت استخدام الأجهزة الإلكترونية بأنواعها، بحيث تُحدد فترات قصيرة في اليوم لها، واستخدامها الاستخدام الأمثل؛ سواء في الوقت، أو المحتوى.. إلخ.
الحرص على تكثيف وتنفيذ المهام والأعمال والأنشطة الاجتماعية والأسرية، وتنويعها باستمرار، والتي تجمع أفراد الأسرة أو الزوجين بعيدًا عن الأجهزة الإلكترونية.
الاستمتاع بكل نشاط أو اجتماع جماعي؛ حتى ما كان منها العادية مثل الاجتماع على المائدة، بل الحرص على ألَّا يتناول الفرد طعامه إلا مع الأسرة.
وضع كل فرد لنفسه خطة يسعى من خلالها لتحقيق إنجازاته على جميع المستويات، ويتشاور فيها مع ذويه وأسرته، ويساعد بعضهم بعضًا للوصول إلى النجاح.
بناء روابط وثيقة وصداقة حميمة من قِبل المسؤول والراعي والمربي لمن هم معه وفي مسؤوليته؛ بهدف إعانتهم على السير في المسار الصحيح، وتقبُّل توجيهاته وإرشاده.
الحرص على المشاركة في الأنشطة الاجتماعية والخيرية والتطوعية مع الجهات المتخصصة والمعنية بتنظيم وتنفيذ هذه الفعاليات.
_________________________
بتصرف من موقع «الطبي»: https://2u.pw/vuybujM.
منظمة الصحة العالمية. الموقع الرسمي.
amyaman2002@gmail.com
كاتبة سورية.