«أنا أعمل؛ إذاً أنا موجودة.. أنا أعمل؛ إذاً أنا ناجحة.. أنا أعمل؛ إذاً أنا حرة»، هكذا صوروا للمرأة في وسائل الإعلام ليل نهار، حتى صارت الوظيفة حلماً يراود الأجيال الجديدة من فتيات هذا العصر.
ليس عيباً أو حراماً أن تعمل المرأة، أو أن تشارك الرجل بعض المهام، أو أن يستعان بها في بعض المجالات إذا دعت الضرورة إلى ذلك، شريطة التزام ضوابط الشرع والعرف.
لكن الأزمة تكمن فيما وراء عمل المرأة، وما يراد لها، وما يدبر لمجتمعاتنا، مع تعالي الأصوات النسوية بشأن تمكين المرأة، وحقوق المرأة، وكون المرأة وزيرة، والمرأة قاضية، والمرأة لاعبة، حتى فقدت مجتمعات عدة أن تكون المرأة زوجة، والمرأة أماً، والمرأة مَدرسة!
من المصارحة القول: إن جانباً من محاولات دفع المرأة إلى العمل بشكل حثيث، يتعلق بمحاولة فرض نمط غربي، منزوع القيم، يتترس بآلة مادية، تعمل على إشاعة سعار المادة، واللهث وراء المال، والنفوذ، والنجومية.
الأمر كذلك لا يحمل نوايا حسنة للاستفادة من قدرات المرأة، وتوظيف مهاراتها، وسد الثغرات بها، بقدر ما يتعلق بشكل قد يكون متعمداً بتجريد المرأة من حيائها، ودفعها إلى مخالطة الرجال، والتنازل عن حجابها، وتقديم التنازلات، الواحد تلو الآخر.
دراسات عدة، أبرزها دراسة بريطانية صادرة عن اتحاد نقابات العمال في بريطانيا، قبل سنوات، تؤكد تزايد معدلات التحرش بالمرأة الموظفة، وأن نصف السيدات يتعرضن للتحرش الجنسي في العمل، عبر ملامسات غير مقبولة، ونكت غير لائقة، وتعليقات خادشة للحياء، إضافة إلى التعرض للاستغلال الجنسي بأكثر من شكل، وطلب تقديم خدمات جنسية، ومعاناتها من الإحباط والخوف، دون الإبلاغ عن ذلك؛ خشية المساس بمستقبلها المهني.
الأخطر مما سبق، ما يترتب من تداعيات على عمل المرأة، وربما بلوغها مناصب مرموقة، وجني أرباح طائلة، ما ينعكس لاحقاً بالسلب على الحياة الزوجية، وتربية الأبناء، خاصة مع تخليق وتصنيع حالة من الندية مع الرجل، وإثارة أجواء من المنافسة البغيضة بين جناحي المجتمع.
تتفاقم تلك الآثار السلبية، بتنامي حالة الاستغناء عن شريك الحياة، وتمدد الشعور بعدم الحاجة إلى الزوج، مع تطور ذلك لاحقاً إلى خلق حالة من الرغبة في الانفصال، وربما تفضيل الطلاق عند وقوع أي خلاف أسري، ما دامت الوظيفة في جيب، والمال في الجيب الآخر.
ينتابني الحزن حينما أرى حالات بالفعل لفتيات يفضلن الوظيفة على الزواج، بل، وفي إشارة إلى حب المال، يعتبرن “«القرش» (عملة مصرية) برقبة الرجل؛ أي تضاهيها وتعدلها؛ الأمر الذي زاد من معدلات العنوسة في مصر وغيرها من البلدان العربية والخليجية.
ويلاحقني الأسى، حينما تفسد الحياة الزوجية في «سنة أولى زواج»، ويكون السبب في ذلك عمل المرأة التي قصرت في بيتها، وفي حق زوجها وولدها، ثم تجني الطلاق مبكراً، من أجل وظيفة تجني من ورائها أوراقاً من البنكنوت، وقد ضحت بكونها زوجة وأماً، هي نصف المجتمع، وتربي النصف الآخر.
ويعتصرني الألم حينما تصبر المرأة على مشاق العمل، ولا تصبر على مشاق الحياة، حينما تخفض جناحها لرئيسها في العمل، وتعاند كبراً وغروراً أمام زوجها، متناسية حقه وفضله، فتكفر العشير.
ويلازمني الغضب حينما يجتمع الذئاب حول المرأة العاملة، هذا يلاطفها، وذاك يمدح جمالها، وثالث يتحرش بها، ورابع يخببها على زوجها، وخامس يعدها بالزواج إذا تطلقت، فإذ به يروغ منها كما يروغ الثعلب.
إن عمل المرأة يحتم على المرأة في المقام الأول أن تصارح نفسها، ماذا جنت؟ وماذا حققت؟ وماذا خسرت؟ وما الهدف؟ وإلى أين المراد؟ وأيهما أولى؛ العمل أم الزواج؟ ومن الأحق بي؛ أسرتي، أم وظيفتي؟
أعني ما أطرحه جيداً من تساؤلات، ويحضرني صديقتي التي كانت تعمل إلى وقت متأخر كل يوم؛ سعياً وراء المال، وقد جنت الكثير، ووفرت لأسرتها دخلاً كبيراً، يطيب معه العيش، لكنها فقدت خيرة أبنائها حينما تركته فريسة لأصدقاء السوء، ففر من البيت، قائلاً لها: «لقد منحتني المال، لكن لم تمنحيني الحنان».
ربما هذا حال الكثير من الأبناء والشباب، ممن يلهث ذووهم وراء المال، وينشغل آباؤهم وأمهاتهم بمهام الوظيفة، وأجواء العمل، فيفتقدون القدوة، والتربية، والحب، والحنان.
إن من الخطورة أن تتحول الأم إلى صراف آلي، أو «فيزا» لاستجلاب الأوراق النقدية فقط، متخلية عن دورها كزوجة، وأم، ومحضن تربوي، وحصن أخلاقي، ودرع قيمي، وشجرة تمد صغارها بالدفء والظل والأمان، في زمن كثرت فيه المغريات والشهوات.