تحظى بكين، العاصمة التاريخية للصين لأكثر من 800 سنة، إحدى أكبر العواصم في العالم، بأهمية تاريخية وثقافية وسياسية كبيرة، لكن ما لا يعرفه كثيرون أن مصمم هذه المدينة هو معماري عربي مسلم، بناها بتكليف من البلاط الإمبراطوري في القرن الثالث عشر الميلادي، وكان اسمها «دادو»، فما قصة هذا المعماري الفذ؟ وما قصة هذه المدينة؟
المعماري «اختيار الدين»
«اختيار الدين» معماري من أصل عربي، هاجرت أسرته إلى الصين في وقت غير معروف، وقد عاش في الصين في أوائل عهد أسرة «يوان»، وظهرت مواهبه في الهندسة المعمارية، فأنعم عليه البلاط بمنصب مهم، وذلك قبل تتويج قوبيلاي خان إمبراطوراً عاماً.
كما رأس إدارة الهندسة المعمارية التي أطلق عليها اسم «شايدل»، وهي كلمة مغولية تعني «خيمة من القصب»، وإدارة «شايدل» هيئة خاصة بإدارة الهندسة المعمارية والعمال التجاريين، وقد تولى اختيار الدين منصب مدير هذه الهيئة عام 1266م، وأصبح يعامل معاملة وزير من الدرجة الثالثة.
وفي عام 1267م تم تكليف اختيار الدين بإعادة التخطيط لبناء مدينة جديدة بدلاً من المدينة القديمة «تشنغدو» التي أحرقها المغول عندما فتحوها، وظلت الحرائق فيها شهراً كاملاً تحولت بعدها إلى أنقاض.
تكليف إمبراطوري
ولما كان نصب الخيام حسب عادات المغول لا يتفق مع وضع الصين كدولة ذات حضارة عريقة، فقد عزمت الإدارة المغولية على تأسيس العاصمة الجديدة بنظام يقارب النظام المعماري الصيني التقليدي.
وتم إسناد هذه المهمة إلى المعماري المسلم «اختيار الدين»، وكان يساعده في هذه المهمة الوزيران الكبيران «تشانغ رو»، و«دوان تيان لو»، وهما من كبار الضباط العسكريين، ويبدو أن مهمتهما كانت الرقابة والحراسة للمشروع، بينما كان «اختيار الدين» يتولى كافة الأعمال الفنية للمشروع من التصميم إلى التنفيذ.
وقبل النهوض ببناء المدينة شارك «اختيار الدين» زملاءه في مسح طبوغرافيتها وتجهيز مصارف المياه حسب انحدارات الأرض، وعلى هذا الأساس وضع هذا المعماري المسلم خطة عامة لبناء المدينة، مراعياً التقاليد الصينية وظروف تطور التاريخ والمزايا الجغرافية هناك.
وقد عني «اختيار الدين» عناية كبيرة بتخطيط القصور الإمبراطورية من الداخل، فقد أدرج فيها قاعات البلاط المخصصة لمعالجة الشؤون السياسية، ومعبد أسلاف الإمبراطور ومساكن الحظايا والوصيفات، والجواسق، والحدائق والبحيرات، ومأوى الحرس والخدم، ومستودعات الملابس وأدوات الطعام وأدوات المواصلات.
وفي مجرى تنفيذ هذا المشروع تمسك «اختيار الدين» بالمبادئ الثلاثة التالية: أعمال السخرة تثقل كاهل الشعب، النفقات المالية لا تضعف قوة الدولة، معاملة العمال بإحسان تام ومنحهم المكافآت الكافية.
تعمير المدينة
أما عن تعمير المدينة العامة، فقد خطط الشوارع والأزقة لإقامة المباني المتلاصقة على جوانبها، على طريقة المدن الصينية الأخرى التي أنشئت قبل عهد أسرة «يوان».
وجعل على كل جانب من جوانب المدينة الكبيرة المربعة المسورة ثلاث بوابات، وفي داخلها تتقاطع الشوارع العريضة المستقيمة، وفي وسطها تتقدم القصور الإمبراطورية، وخلفها الأسواق التجارية، وعلى يسارها معبد «تايمياو» (معبد تقديم القرابين لأسلاف الإمبراطور) وقد انقسمت المدينة إلى 50 حارة، ولكل منها اسم خاص.
ويبلغ محيط المدينة أكثر من 4.5 كم، ولها أكثر من 11 بوابة، أشهر هذه البوابات البوابة الغربية التي تسمى «شيهوا من»، والبوابة الشرقية التي تسمى «دونفهو منك، وما تزال هاتان البوابتان محتفظتين باسميهما حتى اليوم، برغم تغيير أشكالهما من عهد أسرتي «مينغ»، و«تشنغ»، وكانت طرق المدينة فسيحة صالحة لمرور العربات، وكانت هناك شوارع عرضها 24 قدماً، وشوارع عرضها 12 قدماً، إلى جانب 364 زقاقاً كبيراً، و2900 زقاق صغير.
ويتضح مما سبق أن مدينة «دادو» الجديدة كانت مدينة ضخمة تم تصميمها بكل عناية، وحسب تقاليد الصين ينبغي لكل عاصمة نموذجية أن تكون مربعة الشكل، ولكل جهة من جهاتها الأربع ثلاث بوابات، وتتشابك فيها طرق مستقيمة.
ويتكون قلب المدينة من البلاط الإمبراطوري جنوباً ومن السوق شمالاً، ومن المعبد السلفي الإمبراطوري شرقاً، ومن معبد آلة الأرض والجنوب غرباً، وكانت «دادو» المصممة على يد «اختيار الدين» تجسيداً لهذه الفكرة.
ويبدو أن «اختيار الدين» قد تأثر في تصميمه للمدينة بالأسلوب المعماري الإسلامي، فمثلاً موقع برجي الجرس والطبل في المدينة يبدو كأنه موقع لبرج مشاهدة الهلال في المساجد الخاصة بالمسلمين، كما أن اختلاف عدد بوابات المدينة ربما تأثر بالأسلوب المعماري العربي الذي لا يشدد على التناسق بين المباني.
وجملة القول: إن «اختيار الدين» لم ينقل نظام البناء المعماري التقليدي حرفياً، ولم يقلده آلياً في مجرى تصميم مدينة «دادو»، بل طوره وأدخل عليه أساليب جديدة في مجرى وراثته إياه.
وفي عام 1285م، اكتمل بناء هذه المدينة التي يقارب حجمها حجم مدينة بكين في بداية قيام الصين الجديدة عام 1949م، وقد كان «اختيار الدين» يواظب على العمل ليل نهار دون أن تفتر له حماسة أبداً، وراح يتفنن في وضع الرسوم تارة، ويمعن النظر في رسومه تارة أخرى، كما كان يستفيد من أصابعه وذراعيه في أعمال القياس بلا انقطاع، حتى أخرج هذا العمل البديع، العاصمة الجديدة للمغول.
لقد بذل «اختيار الدين» كل ما لديه من الحكمة والقوة في تعمير المدينة؛ مما أضعف جسمه تدريجياً، فمات بعد فترة قصيرة من ذلك.
وقد أراد العمال والحرفيون أن يقيموا تمثالاً له أمام مقبرته تخليداً لمآثره الجليلة، بيد أنهم عدلوا عن ذلك احتراماً للتقاليد الإسلامية، لكن من مآثره العظيمة تظل نصباً تذكارياً خالداً في قلوب الصينيين.
توارث أجيال
وقد توارث نسله الوظيفة التي كان يشغلها، فتولى ابنه «محمد شاه» وزارة الشؤون الهندسية بعد ذلك، وساهم مساهمة كبيرة في الأعمال الهندسية والمعمارية في البلاد، وتولى بعده ابنه «مبارك شاه»، وحفيده «ميدي شاه» وزارة الشؤون الهندسية، معنى ذلك أن الأجيال الأربعة من عائلة «اختيار الدين» قد تولوا بالتتابع مهمة وزارة الشؤون الهندسية المعمارية، وقدموا المساهمات الكبيرة للبلاد.
إعادة اكتشاف
ورغم أن إسهامات «اختيار الدين» في بناء عاصمة أسرة «يوان» لم تدون في السجلات التاريخية، فإن المؤرخ الصيني «تشيني يوان» اكتشفها عندما قام بالتحقيق في آثار تاريخ الصين الحديث؛ مما أضاف إلى تاريخ البناء الصيني صفحة كانت مفقودة سجلت فيها إسهامات «اختيار الدين»، وما يزال بوسع الناس أن يروا أسلوب المعماري «اختيار الدين» فيما تظهره مدينة بكين اليوم في الفخامة والجمال والبهاء.
وقد تجلى ذلك في وصف المعماري الصيني الكبير «لينغ سي تشينغ» (1901 – 1972م) (مصمم مدينة بكين الحالية) عندما قال: «إن بكين عمل رائع تركه لنا التاريخ، وإنها خلاصة المجتمع الإمبراطوري التي تعكس بشكل كامل أحواله السياسية، والاقتصادية، والثقافية، لذلك تعد هذه المدينة متحفاً عظيماً لنا».