أمرنا الله عز وجل أن نستعيذ به سبحانه من شرور الخلق جميعاً –من كل ما يتأتَّى منه شر– فقال سبحانه وتعالى: (قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ {1} مِن شَرِّ مَا خَلَقَ {2} وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ {3} وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ {4} وَمِن شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ) (الفلق).
في هذه السورة الكريمة (الفلق)، أمرنا الله عز وجل أن نستعيذ به سبحانه من شر كل مخلوق فيه شر، ويتأتى منه ضرر في البدن أو المال أو في الدين أو الدنيا.
ثم أتبع ذلك سبحانه وتعالى بالاستعاذة به عز وجل من شر الليل إذا أرخى سدول ظلامه، لخفاء الضرر فيه.
ثم ذكر سبحانه وتعالى النفاثات في العقد، تلك النفوس السواحر التي تصيب الإنسان بالضرر من حيث لا يشعـر.
ثم ذكر جل وعلا حسد الحاسد؛ لأن الحاسد يتمنى زوال نعمة المحسود، وقد تلتهب نار حسده ويشتد حقده فيسعى جهده بأدق مكايده في توصيل الأذى والضرر إلى من تفضل الله عليه بأنعمه.
ويصف علماء البلاغة الترتيب الوارد في هذه السورة الكريمة بأنه ترتيب تصاعدي؛ أي أن الحسد أشدها ضرراً وأعظمها خطراً.
أما العين فقد ورد ذكرها في القرآن الكريم بطريق الإشارة، وذلك في سورة «يوسف»؛ إذْ يحكي القرآنُ الكريم عن يعقوبَ عليه السلام قولَه لبنيه: (وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ) (يوسف: 67)، جاء في تفسير ابن كثير: قال ابن عباس ومحمد بن كعب ومجاهد والضحاك وقتادة والسدي وغير واحد: إنه خشي عليهم العين لأنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة، ومنظر وبهاء، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم، فإن العين حق تستنزل الفارس عن فرسه.
وقول يعقوب عليه السلام لبنيه بعد هذه الوصية: (وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ) معناه أن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه، فإن الله سبحانه وتعالى إذا أراد شيئاً فلا راد لقضائه ولا معقب لحكمه؛ ولذا فوض يعقوب عليه السلام أمره إلى الله عز وجل فقال: (إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ)، وقد عمل إخوة يوسف بوصية أبيهم يعقوب عليه السلام، إلا أن الناس عرفوا أنهم إخوة من أجسامهم الفارعة وسيماهم المتقاربة فأصابتهم العين، وكان من شأنهم ما قصه الله علينا في سورة «يوسف».
العين في السُّنة المطهرة
في السُّنة المطهرة أحاديث كثيرة، بينت آثار العين ومضارها بصورة واضحة، توجب علينا التوقي منها، ففي صحيحي البخاري ومسلم، عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «العين حق»، وفي صحيح مسلم، عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «الْعَيْنُ حَقٌّ وَلَوْ كَانَ شَيْءٌ سَابَقَ الْقَدَرَ سَبَقَتْهُ الْعَيْنُ وَإِذَا اسْتُغْسِلْتُمْ فَاغْسِلُوا».
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «العين حق»؛ أي الإصابة بها أمر ثابت وموجود، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو كان شيء سابق القدر سبقته العين» زيادة تأكيد لقوله عليه الصلاة والسلام: «العين حق»، وفيه تنبيه على سرعة نفاذها وقوة تأثيرها في ذات المَعين، وأنها عظيمة الضرر بالغة الخطر، لو فرض أن شيئاً له من قوة النفاذ وسرعة التأثير ما يجعله يسبق القدر فيؤدي إلى فناء شيء وزواله قبل أوانه المقدر له كانت العين!
وأما قوله عليه الصلاة والسلام: «وإذا استغسلتم فاغسلوا»، فتوضحه قصة سهل بن حنيف رضي الله عنه: عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف قال: اغتسل أبي سهل رضي الله عنه بالخرار فنزع جبة كانت عليه، وعامر بن ربيعة ينظر إليه، وكان سهل شديد البياض حسن الجلد، فقال عامر: ما رأيت كاليوم ولا جلدَ مخبّأةٍ عذراءَ! فوعك سهل مكانه فاشتد وعكه، فأُخْبِرَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم، وقيل له: ما يرفع رأسه، وكان قد اكتتب في جيش، فقالوا: هو غير رائح معك يا رسول الله، والله ما يرفع رأسه! فقال: «هل تتهمون به أحداً؟»، فقالوا عامر بن ربيعة، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فتغيظ عليه، وقال: «علام يقتل أحدكم أخاه؟! ألا برّكْتَ؟! اغتسِلْ له»، فغسل عامر وجهه ويديه ومرفقيه وأطراف رجليه وداخل إزاره في قدح، ثم صب ذلك الماء عليه رجل من ورائه فبرأ من ساعته، وراح سهل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس به بأس. (أخرجه مالك والنسائي وصححه ابن حبان).
قوله صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة: «علام يقتل أحدكم أخاه؟!» دليل على أن العين تقتل، وأنها قد تُدْخِلُ الرجلَ القبرَ والجملَ القِدْرَ! ومعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: «ألا بركت؟!»؛ أي هلا دعوت له بالبركة؟ قال ابن عبدالبر: هو أن يقول: تبارك الله أحسـن الخالقين، اللهم بارك فيه، فإذا دعا بالبركة صـرف المحذور لا محالة.
وقال الباجي: هو أن يقول: بارك الله فيه، فإن ذلك يبطل ما يخاف من العين ويذهب تأثيره، وفي حديث البزار عن أنس مرفوعاً: «من رأى شيئاً فأعجبه فقال: ما شاء الله لا قوة إلا بالله، لم يضره».
التعوذ من العين
في صحيح البخاري: عن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يُعوّذُ الحسنَ والحسينَ رضي الله عنهما: «أعوذ بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ومن كل عين لامّة»، ويقول: «إن أباكما كان يعوذ بها إسماعيل وإسحق»، وفي هذا الحديث دليل قوي وبرهان واضح على أن الإصابة بالعين كانت معروفة في الأمم السابقة، وقد أمروا بالاستعاذة من شرها كما فعل أبو الأنبياء إبراهيم عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام.
وفي البخاري ومسلم في كتاب «الطب»: عن عائشةَ أمِّ المؤمنين رضي الله عنها قالت: «كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني أن أسترقي من العين»، هذا لفظ مسلم؛ ولفظ البخاري: قالت: «أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر أن يسترقي من العين».
كما ورد في باب الطب والمرض والرقى من صحيح الإمام مسلم، عن عائشةَ زوجِ النبي صلى الله عليه وسلم، قالت: كان إذا اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم رقاه جبريل قال: «باسم الله يبريك ومن كل داء يشفيك ومن شر حاسد إذا حسد وشر كل ذي عين»، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن جبريل أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: «يا محمد اشتكيت؟ فقال: نعم، قال: باسم الله أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد، الله يشفيك باسم الله أرقيك».
هذا وقد يكون العائن حاسداً؛ أيْ يجمع بين العين والحسد، وقد يكون العائن غير الحاسد، وقد يكون العائن رجلاً صالحاً: فعامر بن ربيعة صحابي جليل، ومع ذلك أصابت عينُهُ سهلَ بن حنيف حتى لُبِطَ (أَي صُرِعَ) في مكانه، كما جاء في رواية أخرى.