من حكم وقوع المصائب في هذه الدنيا أن توقظ في وعي المؤمنين حقائق غفت وتذكّرهم بالعبرة الحسية بمعان قلبية، والمصيبة هي كل ما يصيب الإنسان مما فيه كراهة له وتأذٍّ منه ولا قُدرَةُ له على دَفْعِه، لكن حين يكون أثر المصيبة أن تزلزل إيمان المؤمن بدل أن تعززه فهذه هي المصيبة الحقيقية لا تلك! وإذ ذاك، كيف تكون تربية الإيمان خاصة في أوقات الشدائد والمِحَن؟ وكيف نستثمرها في تزكيته بدل أن تكون سبب انتكاسه؟
فيما يلي 5 ركائز إيمانية تعين بإذن الله تعالى على ثبات قلب المؤمن مهما عرض له من مزلزلات:
1- مراجعة وتصحيح التوقعات في هذه الدار:
من منا لا يعلم حقيقة هذه الدنيا بوصفها دار امتحان مؤقتة، وتتنوع فيها الأحوال بين السرّاء والضرّاء والسَّعة والضيق والمنح والمنع؟ ومع ذلك، يَعُمّ بيننا الشعور بالتخوّف من تقلّبات الأحوال والتوجّس من مباغتة تلك الأطوار، والمباغتة تعني المفاجأة على غير توقع، فهل تقلبات الحياة هي التي تباغتنا حقًا، أم أنّ توقعاتنا في غير محلها بداية؟
إننا نتعامل مع الحياة على أنهـا مستقر وهي معبر؛ ومع الأقدار على أنها معادلات رياضية محسومة من جهة نظرنا وهي أسرار غيبية عنا وإن كانت محسومة عند ربنا تبارك وتعالى؛ ومع النعم والمسرّات على أنها مُسلَّمات بَدَهيّة ومكافآت مُستَحَقة؛ ومع الكَدَر والشدائد على أنها المصائب الكبرى التي نتلهف لرفعها لنعود للأصل والحياة الطبيعية، ونتوقع السعادة الخالدة والراحة الدائمة من متاع عمّا قريب نفارقه، ونضع قائمة بالأماني المُتعارَف عليها، منتظرين أن نتساوى في كلّ رزق وفي كلّ نصيب، لأن العرف جرى بأن هذه الأماني حقّ مكتسب للجميع، ومحطات لا بد للكلّ من بلوغها في الحياة، ونتوقع الدوام والاستقرار والثبات مما نحوز ونملك ومع من نعيش ونصحب، مع أنّ الأصل فيهم أنهم مردودون إلى بارئهم وعرضة للزوال بطبيعتهم؛ ونُعوِّل على ثبــات الأحوال مع الناس، ونعجن أرواحنا بهم عجين من لا يطيق وجودًا بغيرهم، ونتعلق بتلابيبهم تعلّق من لا ملجأ ولا منجى له بدونهم، فنلتمّس الثبات ممن طبعه التقلّب ونزهد في استجلاب الثبات ممّن بيده التقليب والتثبيت! ثمّ فيم نتطلّب من الكون الثبات الدائم معنا على ما نهوى، ونحن لا نكاد نَستقر في نفوسنا على حال ولا نثبتُ لربنا تعالى على طريقة؟!
أفليس العَتَب إذن على مَن يتوقع من الأشياء عكس طبائعها التي أُخبِر بها، ويفترض فيها أدوارًا لم تُخلق لها، ويفرض على نفسه تكاليف لم يُخلق لها، ويعلّق ثقته المطلقة حيث لا تحتمل التعليق؟ فمَن الذي خلق لنفسه الإشكال بعدما أشكل عليه خَلقُ نَفسِه؟ وكلّ ذلك مع أنّ الله تعالى أكرمنا بأن أبان لنا تمام البيان عن الطبائع والتكاليف والسنن في الكون والحياة والناس، فأقدار الله تعالى لا تصفع ولا تطعن ولا تباغت المؤمن، وما ينبغي لها ذلك ولا يليق بجلال مُقدِّرها تبارك وتعالى، إنما هي سنن، لا تجد لها تبديلًا ولا تجد لها تحويًلا، لمن فهمها كما أراد من أجراها وليس كما يريد من تجري عليه.
ومن سنة الله تعالى أن كل بني آدم مبتلى في هذه الدار بشيء من النقص: (وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ) (البقرة: 155).
وكذلك من سُنة الله تعالى أن كل إنسان في هذه الدار ممتحن، سواء بالمحنة أو المنحة، إذا انتبه العبد لذلك أدرك أنه في كل وقت ممتحن على الحقيقة! وإذا راجعنا المعنى اللغوي للفظة «مَحَنَ» الفِضّة أو غيرها من المعادن: قام بتصفيتها وتخليصها بالنار من الشوائب، فـ«المُمْتَحَن» من المعادن هو: المُصفّى المهذّب الخالص، من هذا التعريف يتبيّن أنه بعكس المدلول الشائع في الأذهان، المُقتصِر على الاختبار بالشدائد والمصائب والتضييق فحسب، فالمحنة تعني مُطلَق الاختبار لمَعدِن المرء وتمحيص جوهره، وبالتالي يدخل فيها كذلك الامتحان بالنعم والمنح والسَّعَة، وإنما ترتبط دلالتها غالبًا بأوقات الشّدة، لأن المرء يغفل غالبًا في أوقات الرخاء عن مفهوم الاختبار المستمرّ على الحالين: (ونَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً ۖ وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ) (الأنبياء: 35)، وتأمل في قول سيدنا سليمان عليه السلام، لما جاءه عرش بلقيس في أقل من طَرْفَةِ عين: (قَالَ هَٰذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ ۖ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ ۖ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ) (النمل: 40)، فالقصد أننا في كل وقت ممتحنون، لكننا نغفل وقت المنحة عن حقيقة الامتحان، فإذا جاء وقت المحنة فزعنا وجزعنا وشعرنا بالمباغتة.
ولذلك فأول خطوة في حسن التعامل مع مختلف أقدار الله تعالى هو إدراك أن كل الحياة أقدار وكل الأقدار من الحياة، لذلك على كل مسلم أن يربي نفسه ويوطنها على تَصوّر الحياة المتكاملة بكافة تقلّباتها، بما يخفّف حِدّة الجزع من تغير الأحوال، ووطأة تزعزع النفس وطيرانها شُعاعًا عند كلّ نازلة، أو تحويل الحياة لمحطات انتظار تغير حال أو حصول حال، بل كل حال حياة ولا مفر من الحياة على كل حال.
تعتري المصائب هذا الإنسان لتمحو من نفسه الخسة والدناءة، وتكسر الشر والكبرياء، وتفثأ الحدة والطيش؛ فلا يكون من حمقه إلا أن يزيد بها طيشًا وحدة، وكبرياء وشرًّا، ودناءة وخسة، فهذه هي مصيبة الإنسان لا تلك! المصيبة هي ما ينشأ في الإنسان من المصيبة! (الرافعي، وحي القلم).
2- استحضار اسم الله تعالى المُدبّر وإدراك قصديّة الأقدار:
لا بد أن نعي ونذكر أنفسنا أن أقدار الله تعالى مُدَبّرة، مقصودة، مُرادة، ليست عبثًا ولا اتفاقًا، ولا خطأً سيُصحّح بعد حين! وإنما هي سنن لمن فقه، وحياة لمن كان له قلب، ورسائل لمن ألقى السمع وهو شهيد.
وإذا تأملنا في معنى التدبير لغة فهو مصدر مأخوذ من لفظ الدُّبر؛ لأنه نظر في عواقب الأمور وقد تكرر قوله تعالى «يدبّر الأمر» في أكثر من موضع في القرآن الكريم: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾ (يونس: 31)، ﴿اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ﴾ (الرعد: 2)، ﴿يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ﴾ (السجدة: 5).
جاء في تفسيرها للقرطبي والطبري وابن كثير أنه تعالى ينزّل القضاء والقدر، وذكر النابلسي في موسوعته لشرح الأسماء الحسنى: قالوا: التدبير إذا عُزِيَ إلى الله عز وجل هو التوفيق بين أوائل الأمور ومبادِئها وأدبارها وعواقِبِها؛ فالطِفل في بطن أمِّه مُعَرَّض إلى أخطار كبيرة وكثيرة، فإذا به يولد سليماً ومُعافىً، فمن دبَّر أمره؟ هو الله جل جلاله.. فكيف لقّحت هذه البُوَيْضة وكيف انقسمت وكيف سارت إلى الرحم وكيف انغرست في جِدار الرّحم وكيف جاء الدم الكثيف وكيف نمت هذه البويضة فأصبحت على شكل ورقة ثم كيف اتّضح الدِّماغ والجِذع وكيف نبتت الأطراف وبعد تِسْعَة أشهر تجد طِفلاً كامِل الخلق ؛ رأسٌ وجُمْجُمَة وبصر وأعصاب حِسٍّ وأعصاب حركةٍ وعضلات وعِظام وجِهاز هضم وجِهاز تنفَّس وجِهاز دوران وإفراز وغدّة صماء وغدّة درقية وغدة نخامية وغدة البِنكِرياس ؛ في تسعة أشهر وعشرة أيام من حُوَيْصِل لا يُرى بِالعَين إلى طِفلٍ كامل الخلق، فمن يُدبِّر الأمر؟
وهكذا كي يوفق العبد لحسن التعامل مع قدر الله تعالى، يلزم أن يعي كل فرد أنه مقصود بقَدَره المقدور له كما رزقه ونصيبه من الامتحانات، وإن القَدَر سيجري على كل حال، والفرق فيما يكتسبه العبد بتجاوبه، فإما أن يؤجر بصبره وتسليمه وحمده واستعانته بالله تعالى، وإما أن يؤزر والعياذ بالله بالسخط والتذمر واتهام القدر بالظلم، وفيه ضمنًا اتهام لله جل وعلا! وجاء في تفسير الطبري لقوله تعالى: (وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا) (الطلاق: 3): «إن الله بالغ أمره أي مُنفِذه بكل حال توكل عليه العبد أو لم يتوكل عليه، غير أن المتوكل يُكَفِّرْ عنه سيئاته، ويُعظِم له أجرًا».
والخلاصة: لا تتمنَّ زمانًا غير زمانك، ولا حالًا غير حالك، ولا امتحانًا غير امتحانك، ولو بدا لك ظاهرًا خيرًا مما أنت فيه، فإنك لا تدري ما كنتَ لتكون أنت فيه! والله تعالى أعلم حيثُ وأنَّى يجعل خَلْقَه.
إنَّ الطبيب الحكيم لا يجَاري العليل، ولكنَّه ينظر إلى العلَّة، وإنَّ الله تعالى سبحَانه -وله العزَّة- لا يبالي باصطلاح النَّاس، ولكنَّه ينظر مصلحتهُم حين يعطي ويمنع، فليسَ في الأرض فقير قَط إلا عند نَفسِه، ولو اطَّلع كلّ إنسان على الغيب لَمَا اختارَ إلا ما هو فيه. (الرافعيّ، حديث القمر).
ونكمل في أجزاء أخرى، إن شاء الله، باقي الركائز.