أصبح توجه المرأة نحو العمل خارج بيتها في العصر الحديث من الظواهر المنتشرة في مختلف أنحاء العالم، خاصة مع ارتفاع تكاليف المعيشة وزيادة حاجاتها.
في هذا المقال، نحاول أن نقرأ عمل المرأة بين سياقين؛ سياق الحاجة الواقعية التي شرعها ديننا الحنيف ووضع لها الضوابط والأحكام، وسياق الحركة النسوية المعاصرة التي تنظر إلى عمل المرأة كجزء مهم ورئيس في منظومتها الفكرية.
عمل المرأة حاجة واقعية
إن عمل المرأة خارج منزلها من الحاجات الإنسانية التي قد تصل إلى حد الضرورة، الضرورة الفردية الخاصة، أو الحاجة العامة التي تنزل منزلة الضرورة الخاصة وفق قواعد علم أصول الفقه ومقاصد الشريعة.
فقد يكون عمل المرأة ضرورة خاصة مثلاً حين يكون رب الأسرة ميتاً أو عاجزاً أو دخله لا يكفي لتأمين المتطلبات الأساسية للعائلة، عندها يكون عمل المرأة أحد الحلول العملية التي تكفي الأسرة ذل السؤال وحاجة الخلق، وفي كتاب الله تعالى ما يدل على هذه الحالة، كما في قصة موسى عليه السلام حين ورد ماء مدين: (وَلَمَّا وَرَدَ مَاء مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امْرَأتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاء وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) (القصص: 23)، هنا نجد فتاتين كريمتين تعملان في رعي الغنم، مع ما فيه من المشقة التي تثقل كواهل الرجال، وكانتا من أفضل النساء خُلُقاً وحياء وديناً، كما يدل عليه سياق القصة في القرآن الكريم، ومع ذلك عملتا في هذه الوظيفة الصعبة لحاجتهما إليها.
قال العلامة الآلوسي رحمه الله: «(وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ) إبداء منهما للعذر له عليه السلام في توليهما للسقي بأنفسهما، كأنهما قالتا: إنا امرأتان ضعيفتان مستورتان، لا نقدر على مساجلة الرجال ومزاحمتهم، وما لنا رجل يقوم بذلك، وأبونا شيخ كبير السن قد أضعفه الكبر، فلا بد لنا من تأخير السقي إلى أن يقضي الناس أوطارهم من الماء».
وفي السُّنة ما يدل على مثل هذه الحاجة الخاصة، كما في صحيح مسلم من حديث سيدنا جابر بن عبدالله رضي الله عنه قال: طُلِّقت خالتي، فأرادت أن تجد نخلها؛ أي تقطع ثمره، فزجرها رجل أن تخرج، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «بَلَى فَجُدِّي نَخْلَكِ، فَإِنَّكِ عَسَى أَنْ تَصَدَّقِي، أَوْ تَفْعَلِي مَعْرُوفًا»، قال الإمام النووي رحمه الله: «هذا الحديث دليل لخروج المعتدة البائن للحاجة، ومذهب مالك والثوري والليث والشافعي وأحمد وآخرين جواز خروجها في النهار للحاجة».
أما الحاجة العامة إلى عمل المرأة فنقصد بها حاجة المجتمع إلى امرأة تعمل في تطبيب النساء وتمريضهن وتعليمهن، ونحو ذلك من الأعمال التي تخص المرأة وتقع الأمة كلها بالحرج لعدم وجودها.
ولما أدرك فقهاء الإسلام هذه الضرورات والحاجات فصَّلوا في بيان الضوابط والأحكام المتعلقة بعمل المرأة، خاصة فيما يتعلق بمشروعية العمل ونوعيته وكيفيته وأولويته.
بهذا السياق المتزن جاء عمل المرأة في الإسلام، متفهماً لظروفها وحاجاتها، ضامناً لحقوقها، ناظماً للتشريعات المتناسبة مع فطرتها التي خلقها الله عليها، دون صراع أو تشنج، بل في تكامل وانسجام مع دور الرجل ووظيفته.
عمل المرأة في الفكر النسوي
أما عمل المرأة في سياق الفكر النسوي (Feminism) فقد جاء متشنجاً غاضباً متوتراً، ينطلق من فكرة الصراع مع الرجل، والسعي للتحرر من سلطته الأبوية والذكورية؛ لأن عمل المرأة ركيزة أساسية في هذا الصراع وفق الفلسفة النسوية.
وعند التفصيل نقول: إن الفكر النسوي يرى أن عمل المرأة خارج بيتها أمر ضروري لها، بغض النظر عن حاجتها أو حاجة المجتمع؛ لأن الأسرة بوضعها الحالي، بحسب النسوية، مؤسسة ذكورية، تكرس هيمنة الرجل واستعباده للمرأة، والاستقلال الذاتي والمالي لها هو إحدى أهم وسائل الخروج على هذه المؤسسة أو تطويرها.
لذا، تحتقر النسوية أدوار المرأة الأسرية، كونها أماً وزوجة، وترى فيها شكلاً من أشكال احتقارها والتمييز ضدها؛ لأن قيمة المرأة في الفكر النسوي مرتبطة بما تملكه من مال أو تقدمه من إنتاج خارج إطار الأسرة، وبالتالي يكون حمل المرأة وإرضاعها لوليدها ورعايتها لأبنائها وتربيتهم من الأعباء والمعيقات التي تحول بينها وبين تحقيق ذاتها.
ولأن النسوية لا تفرق بين أدوار الرجل والمرأة في الأسرة؛ لذا فهي تعفي الزوج من أي التزام مالي تجاه زوجته، كالمهر والنفقة، إلا ما تفرضه حقوق الشراكة في السكن والمعيشة، لأن المهر والنفقة من أدوات تكريس تبعية المرأة للرجل، فواجب المرأة أن تعمل وتنفق على نفسها دون استعانة بأحد لتتخلص من تلك التبعية.
ثم تعطي النسويةُ المرأةَ حقها في العمل، لتعمل ما تشاء كما تشاء، لأنها حرة في جسدها، وحرة في اختياراتها، ولا يصح تقييدها ولو عملت في العري والدعارة!
إن النسوية في جذورها الفكرية صفحة من صفحات الفكر المادي المنبت عن المعنى والقيمة والوحي، ولا تؤمن بأي مرجعية دينية أو أخلاقية، فجاءت نظرتها إلى عمل المرأة متحيزة متشنجة مرتبكة، تظلم المرأة أولاً، وتظلم دورها الحقيقي في أسرتها ومجتمعها.
وفي الختام نقول: إن عمل المرأة له أسبابه ومبرراته الشخصية والمجتمعية التي من أجلها شرعه الإسلام وجعل له الأحكام، وذلك لتحقيق مصلحة المرأة والمجتمع، أما استغلال النسوية لتلك المبررات لخلق حالة من التوتر والصراع والارتباك داخل المجتمعات هذا يضر بالمرأة ويضر بالأسرة والمجتمع، ويسيء إلى قيم الأمة وأخلاقها، وفي التزام أحكام الله تعالى ضمان لتحقيق سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.