لقد أدخلت البروتستانتية إلى صميم العقيدة المسيحية ثلاثة مبادئ -هي ثلاث أساطير- دمجت البعد اليهودي في البعد النصراني إزاء قضية القدس وفلسطين، وهي:
أولًا: أن اليهود هم أبناء الله وشعبه المختار.
ثانيًا: أن ثمة ميثاقًا إلهيًّا يربط اليهود بالأرض المقدسة في فلسطين.
ثالثًا: ربط الإيمان المسيحي بعودة المسيح بقيام دولة صهيون.
وهذه المبادئ/ الأساطير هي التي أثمرت تيار «المسيحية- الصهيونية» في الحضارة الغربية، ذلك التيار الذي استغلته الحركة الصهيونية في شراكتها مع الإمبريالية الغربية، الذي قال عنه بنيامين نتنياهو، عندما كان سفيرًا للكيان الصهيوني بالأمم المتحدة، في خطابه أمام الجمعية العامة، في فبراير 1985م: «إن كتابات المسيحيين الصهيونيين -من الإنجليز والأمريكان- أنزلت بصورة مباشرة على تفكير قادة تاريخيين مثل لويد جورج (1863 – 1945م)، وأرثر بلفور (1848 – 1930م)، ودرو ولسون (1856 – 1924م) في مطلع القرن العشرين.
إن حلم اللقاء العظيم (دعوة المسيح) أضاء شعلة خيال هؤلاء الرجال، الذين أدوا دوراً رئيساً في إرساء القواعد السياسية والدولية لإحياء الدولة اليهودية، لقد تفجر الحلم اليهودي من خلال المسيحيين الصهيونيين!
وهكذا غدت الأساطير المسيحية الغربية تيارًا مسيحيًّا- صهيونيًّا تحالفت معه الحركة الصهيونية الحديثة، مستغلة إياه لتحقيق أطماع الشراكة الصليبية- الصهيونية ضد القدس وفلسطين!
ومع مطالع الغزوة الاستعمارية الغربية الحديثة التي قادها بونابرت (1769- 1821م) على مصر والشرق (1213هـ/ 1798م) رمى بونابرت حيال الشراكة للأقليات اليهودية؛ لتكون عونًا له على إقامة إمبراطوريته الاستعمارية في الشرق الإسلامي، مقابل زرعهم -ككلاب زراعة- في أرض فلسطين، ولذلك أصدر وهو على أسوار عكا سنة 1799م نداءه لهؤلاء اليهود، والذي قال فيه: «أيها الشعب الفريد، إن فرنسا تقدم لكم يدها الآن، حاملة إرث «إسرائيل»، إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به قد اختار القدس مقرًّا لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق التي استهانت طويلًا بمدينة داود، وأذلتها!
يا ورثة فلسطين الشرعيين، إن الأمة الفرنسية تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء»(1)!
وبعد هزيمة بونابرت وتبخر أحلامه الاستعمارية في لهيب الثورات المصرية وحرارة تضحياتها، تسلم الاستعمار الإنجليز قيادة المشروع الغربي لاستعمار الشرق الإسلامي، واختطاف القدس، مغلفًا تلك الأطماع الإمبريالية بالأساطير الدينية والأوهام اللاهوتية التي استخدمت بمثابة العقيدة القتالية في الصراع التاريخي بين الغرب والإسلام.
ففي عام 1649م قدم لاهوتيان أنجليكانيان، هما جوانا، والبنرزكارترابت، نداءً إلى الحكومة الإنجليزية؛ لإقامة شراكة مع اليهود في مشروع الاستيلاء على القدس وفلسطين، وذلك كي يكون للبروتستانت الإنجليز والهولنديين «شرف نقل اليهود إلى الأرض التي وعد الله بها أجدادهم إبراهيم وإسحاق ويعقوب، ومنحهم إياها إرثًا أبديًّا»(2)!
وفي عام 1838م أنشأت إنجلترا أول قنصلية إنجليزية في القدس، وعينت قسيسًا بوتستانتيًّا نائبًا لقنصلها فيها!
وفي عام 1839م نشر اللورد الإنجليزي آشلي كوبر (إيرل شافتسبري) (1801 – 1885م) دراسته التي يقول فيها: «إن اليهود هم الأمل في تجدد المسيحية، وعودة المسيح ثانية» ليحكم العالم ألف سنة سعيدة!
وفي عام 1839م أرسل سكرتير البحرية الإنجليزية إلى وزير الخارجية بالمرستون (1784 – 1865م) رسالة يقترح فيها: دعوة أوربا للاقتداء بالملك الفارسي قورش (557 – 528ق.م) وإعادة اليهود إلى فلسطين، كما سبق وأعادهم قورش من السبي القديم!
وفي عام 1840م طلب وزير الخارجية الإنجليزي اللورد بالمرستون من سفيره في الآستانة السعي لدى السلطان العثماني لإعادة اليهود إلى فلسطين، ليكونوا حاجزًا ضد تجديد وحدة الشرق، التي كان يعمل لها محمد علي باشا الكبير (1184 – 1265هـ/ 1770- 1849م)، وجاء في مذكرة بالمرستون: «ويكون من مصلحة السلطان الواضحة أن يشجع اليهود على العودة إلى فلسطين، ليكونوا حجر عثرة في سبل أي أهداف تخطر ببال محمد علي أو من يخلفه»(3)!
وفي عام 1840م قدم اللورد الإنجليزي شافتسبري برنامجًا إلى مؤتمر لندن بشأن توطين اليهود في فلسطين، على قاعدة: «أرض بلا شعب لشعب بلا أرض»! وهي القاعدة التي تبنتها الشراكة الصليبية- الصهيونية لاغتصاب القدس وفلسطين.
وفي عام 1844م ألف البرلمان الإنجليزي لجنة «إعادة أمة اليهود إلى فلسطين»!
وفي عام 1882م، ذهب القس الإنجليزي وليم هشلر (1845 – 1931م) إلى السلطان عبدالحميد الثاني (1258 – 1336هـ/ 1842 – 1918م) في القسطنطينية، محاولًا إقناعه بتسهيل هجرة اليهود إلى فلسطين.
وفي العام ذاته (1882م) عقد في إنجلترا المؤتمر الأول لرجال الدين المسيحيين، من أجل «إيجاد حل للمسألة اليهودية»!
وفي عام 1894م، صدر كتاب الدبلوماسي الإنجليزي القس وليم هشلر «إعادة اليهود إلى فلسطين» تنفيذًا للنبوءات الدينية!
وفي 2 نوفمبر 1917م، صدر وعد جيمس بلفور (1848 – 1930م)، وزير الخارجية الإنجليزي، إلى المليونير الصهيوني لورد روتشيلد (1845 – 1934م) بإقامة الوطن القومي اليهودي على أرض فلسطين، وهو الوعد الذي وضعه الانتداب البريطاني في الممارسة والتطبيق، فدخل الجيش الإنجليزي إلى القدس عام 1917م بقيادة الجنرال اللنبي ( 1861- 1936م)، ويومها قال كلمته الشهيرة: «اليوم انتهت الحروب الصليبية»!
ويومها نشرت مجلة «بنش» (Punch) الإنجليزية رسمًا كاريكاتيريًّا موحيًا، ظهر فيه الملك الصليبي ريتشارد قلب الأسد وهو يقول: «أخيرًا تحقق حلمي»!
وهكذا غلفت الأساطير الدينية البروتستانتية وحركت الأطماع الإمبريالية في اختطاف القدس وفلسطين.
______________________________
(1) د. محمد عمارة (في فقه المواجهة بين الغرب والإسلام) ص21- طبعة مكتبة الشروق الدولية- القاهرة 2003م.
(2) (الأصولية الإنجيلية. أو الصهيونية المسيحية) ص36، 39.
(3) جورج كيرك (موجز تاريخ الشرق الأوسط)- ترجمة عمر الإسكندري- مشروع الألف كتاب- القاهرة، و: د. محمد عمارة (إسرائيل: هل هي سامية؟) ص14- طبعة القاهرة 1967م.
المصدر: «مجلة الأزهر»، 12 أبريل 2015.