عرفت مديراً أجنبياً لمصنع كبير، قيل لي في وصف إدارته: «تراه جوالاً بين الآلات والمكاتب مغبر الجبين بتراب العمل وعرقه، ملوث الثياب بالزيوت والشحوم التي تسقط عليه وهو تحت آلة يعالجها، أو في طريق وعرة إلى مهمة ثقيلة»!
فتذكرت شكوى أحد المربين وهو يصف لي بعض الشباب في بلادنا العربية، قال: إنهم يبغون مكتباً أنيقاً يجلسون إليه وتليفوناً يثرثرون فيه، ونمطاً من العيش لا يضني ولا يقلق، قلت: والله هذه أخلاق الهزيمة الضياع، وأصحابها هم عللنا المقعدة، وأما الرجال المعنيون بالعمل الحق الحمالون لأعبائه الثقال فهم أصل النصر والتقدم!
إنني أغوص في بحر من الحيرة والأسف حين أرى عظماء العالم على جانب رائع من دماثة الخلق، ولطف المعاشرة، وسهولة الطبع وقلة التكلف، على حين ترى المتسولين من موائدهم متعجرفين متعاظمين كأنهم «أتوا بالديب من ذيله»، كما يقول العوام في أمثالهم.
إن بناة التاريخ من سلفنا الصالح كانوا يتميزون بخلقين:
– عظم الكفاءة.
– ونكران الذات.
ذلك ما استفادوه من إيمانهم الوثيق، قدرة ملحوظة في مجالات النشاط الإنساني، وإخلاص لله يدفع أحدهم إلى الجود بما عنده: (وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى {19} إِلَّا ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى) (الليل).
والغريب أن الخلف الطالح جاء على الضد، فهو مكشوف العجز في جنبات الدنيا مادياً وأدبياً، وهو طالب شهرة يجري وراءها كالطفل الغرير، ويريد أن يرمقه الناس بالتجلة على غير شيء!
إن خصومنا لم يخرقوا العادات فيما يفعلون ويتركون، لقد رأيتهم منطقيين في شتى أحوالهم.
أما نحن فقد هبطنا عن المستوى العادي ولم نكن منطقيين في تصرفاتنا، ومن وراء هذا الخلل الجسيم البعثيون والقوميون الذين نفثوا سمومهم في كل شيء، فقد جرَّؤوا العرب على قطع نسبهم إلى الإسلام ثم جرَّؤوهم على إطراح عقائده وفضائله، ثم وثبوا على الحكم عقب انقلابات مصطنعة لا تتصل بالشعوب العربية من قريب أو بعيد، ثم أخذوا يتعسفون السير نحو أغراضهم على حطام من الداخل وإن كان الظاهر مزوقاً كانت النكبة، فهل تعلم العرب من هزائمهم المترادفة أن يثوبوا إلى رشدهم؟
كلا..
ولقد راقبتُ الانقلابات التي وقعت في أرجاء العالم الإسلامي وأزعجني أنها وقعت لمحاربة عوج، وإقرار خير، فإذا العوج بعدها يزيد والخير ينكمش، واهتبل أعداء الإسلام الفرصة فضاعفوا أرباحهم في بلاده، وإيهانهم لقضاياه حتى لكأنهم كانوا مع هذه الانقلابات على موعد!
ففي أفريقيا حيث حيكت مؤامرات ماكرة لسحق الإسلام وطي أعلامه، رأينا ديننا الجريح يدوخ تحت ضربات موجعة يفقد بعدها الكثير من تراثه وسلطانه وكرامته، ونشأ عن ذلك -في أقرب البقاع علينا- أن ضاع السودان الجنوبي بجرة قلم، وتحقق حلم الصليبية العالمية التي تسعى وراءه من 50 سنة، فكسبت 250 ألف ميل مربع من الأرض.
وتاحت فرصة غريبة لعُشر السكان المسيحي أن يتحكم في البقية الضائعة ويمحو منه الإسلام.
وسنرى كم ستكسب «إسرائيل» من هذا التصرف.
إن أغلب الانقلابات التي حدثت رتب وظائف الدولة العليا والوسطى على أساس أهدرت فيه الكفاءات إهداراً مزعجاً.
وتصور معيداً في كلية يصبح عميدها، أو كاتباً في محكمة يصبح رئيسها، لكن هكذا تجري الأمور في غيبة الدين والدنيا معاً.
لقد أبى المتنبي الذهاب إلى الأندلس؛ لأنه أدرك تفاهة حكامها من ضخامة الألقاب التي يحملونها، وكأن الرجل يصف أحوال العرب في عصرنا هذا لا في عصره هو عندما قال: في كل أرض وطئتها أمم يقودها عبد كأنها غنم!
إن العرب الآن يخوضون معركة بقاء أو فناء، وفي غيبة الإيمان وتقاليده وشمائله عن مجتمعاتهم نمت أخلاق أخرى لا تصلح بها حياة ولا تضمن بها أخرى.
ومن الخير أن يتحسسوا هذا البلاء في صفوفهم فيحسموه، إن الحقائق تفرض نفسها طوعاً أو كرهاً مهما تجاهلناها، وعندما يكون الشعب شكلاً لا موضوع له فهو صفر.
وعندما يكون الرؤساء أوراقاً مالية ليس لها غطاء نقدي محترم فهم عملة زائفة، قد تروج بين المغفلين، ولكن إلى حين، على العرب أن يعيدوا تشكيل نفوسهم وصفوفهم ومتقدميهم ومتأخريهم وفق القانون الإلهي العتيد؛ (لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ اللّهِ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً {123} وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتَ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَـئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً) (النساء).
ما يفعل الله للعرب إذا كان خصومهم يحترمون كلام أنبيائهم ورؤساء العرب يستهينون بكلام نبيهم؟!
ما يفعل الله للعرب إذا كان خصومهم في كل ميدان يقودهم أقدرهم وأشجعهم، أما قادة العرب فأخلاط من الناس فرضتهم في أماكنهم حظوظ سيئة؟!
ما يفعل الله للعرب إذا كانوا يهزلون وخصمهم جاد؟!
لا بد من إعادة النظر في شأننا كله، وإلا حقت علينا كلمة ربك.
__________________
المصدر: كتاب «قذائف الحق».