خلق الله عز وجل البشر وأودع في فطرتهم أنه خالقهم، ثم أرسل تعالى رسله عليهم السلام بعقيدة تحوي رؤية شاملة عن الحياة والكون والإنسان، وبتشريع تفصيلي يحوي حكم كل شيء يجدونه في ذلك؛ ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25)، ومن ذلك نزل القرآن حكمًا في كل شيء يخص الناس في حياتهم؛ ﴿إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللّهُ﴾ (النساء: 105).
وهذه الفكرة المركزية التي أرساها الإسلام في تصور المسلمين جعلت الدين في نظرهم حاضرًا في كل مناحي الحياة، بخلاف غيره من أديان اقتصرت عند أصحابها على يوم يذهبون فيه إلى المعبد، أو طقس يكون عند زواج أو وفاة وأمثال ذلك، فنظر المسلم إلى الدنيا تشكل باعتبار مفهوم الاستخلاف في الأرض وتحقيق عبودية الله في كل جزئية من الحياة، وعلى ذلك شملت الأحكام التكليفية الخمسة من واجب ومحرم وجائز ومكروه ومندوب كل الأفعال دون استثناء، وتكمن حقيقة الاختبار في الحياة في موافقة رضا الله في ذلك.
إن هذه الرؤية الكونية التي علمها اللهُ تعالى المسلمَ جعلت نظرته إلى العلوم واسعة، لا اعتبار فيها لماهية العلم في ذاته في مقابل أولويته إلى مرضاة الله، فتحقيق مراد الله من جهة ما أوجب وما ندب هو المقصد بصرف النظر عن تقديم علم على علم، ولا شك أنه قد أوجب على الجميع تعلم ما يصح به الاعتقاد وما تصح به العبادة أيًا كانت مستوياتهم العقلية أو العلمية، ولكن كل ما زاد على ذلك من علوم سواء مستنبطة من الكتاب والسُّنة كعلم الفروض أو الفقه أو القراءات.. أو محققة لمقاصدهم في إقامة الدين كاللغة والحساب والفلك والجغرافيا والتاريخ والكيمياء والفيزياء.. فهي إما واجب عيني على أفراد مخصوصين أو كفائي على سائر الأمة أو مستحب لآخرين.
وبذلك فلم يُقسم أهل الإسلام العلوم حسب مجالها إلى علوم دين وعلوم دنيا، وإنما حسب تحقق مراد الله؛ وهو عبوديته، إلى وجوب عيني وكفائي واستحباب، وكل ذلك تبع لما يسميه علماء اليوم «فلسفة العلوم»؛ وهي ما تشكل النظرة إلى العلم وثمراته ومظان الإفادة منه، وهذه الفلسفة هي ما تفرّق في النظر إلى العلوم بين المسلم المستخلف في الأرض للعبادة المؤمن بالمعاد والحساب وبين غيره.
وعليه، فإنه يصح أن نقول: إن كل علم يحقق مراد الله فهو علم نافع وشرعي، وتتفاوت في ذلك العلوم حسب حاجة أهل الإسلام وحال المتعلم لا حسب مجالها المعرفي، ولا يقتصر بذلك مفهوم العلوم الشرعية على ما يتعلق بالمستنبط من الكتاب والسُّنة فحسب، اللهم إلا باعتبار الاصطلاح فقط لا باعتبار حقيقة خروج غيرها عن الشريعة.
إن النظرة إلى العلوم عند المسلمين في عصور ما بعد سقوط الحضارة الإسلامية شابها كثير من الوَهم بشأن ما سبق تقريره، وذلك لفشو التبعية لمركز الحضارة الجديد عند الغرب، وهذا ما نتج عنه عند البعض تقسيم العلوم إلى ديني ودنيوي، والحكم بعدم نفع بعض العلوم اعتمادًا على حديث استعاذة النبي صلى الله عليه وسلم من علم لا ينفع(1)! وهذا غلط على الشريعة؛ فإن ذلك في العلم الذي لا ينتفع صاحبه به وليس عن ماهية العلم ذاته، ولم يعرف أحد من علماء الإسلام في سائر أزمان حضاراتهم هذا التقسيم أو قالوا بقلة جدوى ما يسميه البعضُ اليوم بالعلوم الدنيوية، بل يشهد تاريخنا حضور الموسوعية العلمية في كثير من أهل علوم الشريعة ونظرهم إلى تلك العلوم على أنها محقق لمقصد العبودية، وأمثلة ذلك في تاريخ الإسلام لا يسع ذكرها مجلدات كثيرة، أذكر منها واحدًا فقط لغرض التمثيل.
ابن النفيس (ت 687هـ)
قال الذهبي في ترجمته له: «علاء الدين ابن النفيس القرشي، الدمشقي، الطبيب، شيخ الأطباء في عصره.. وبرع في الصناعة والعلاج، وصنف ونبه واستدرك وأفاد وشغل، وألَّف في الطب كتاب «الشامل»، وهو كتاب عظيم تدل فهرسته على أن يكون ثلاثمائة مجلدة، بيض منها ثمانين مجلدة، ما ترك خلفه خلف، وفي الكحل كتاب «المهذب»، وشرح «القانون» لابن سينا، وكانت تصانيفه عليها من ذهنه لا يحتاج فيها إلى مراجعة لتبحره في الفن، وانتهت إليه رياسة الطب بالديار المصرية»، ومع كل ذلك قال: «وقد صنف في الفقه، وفي أصول الفقه، وعلم الحديث، والنحو، وعلم المعاني والبيان»(2).
ونقل ابن تيمية قول ابن النفيس مستشهداً به في الرد على المتكلمين فقال: «ولهذا كان ابن النفيس المتطبب الفاضل يقول: ليس إلا مذهبان؛ مذهب أهل الحديث، أو مذهب الفلاسفة، فأما هؤلاء المتكلمون فقولهم ظاهر التناقض والاختلاف»(3).
وذكر الصفديُ رؤيته لكتابٍ لابن النفيس ينتصر فيه لصحة الإسلام فقال: «عارض به رسالة حَيّ بن يقظان لابن سيناء ووسمه بكتاب «فَاضل بن نَاطِق»، وانتصر فيه لمذهب أهل الإسلام وآرائهم في النبوات والشرائع والبعث الجسماني وخراب العالم، ولعمري لقد أبدع فيه، ودلّ ذلك على قدرته وصحته وذهنه وتمكنه من العلوم العقلية».
ثم حكى قصة عجيبة تدل على موسوعية ابن النفيس في سائر العلوم فقال: «وأخبرني السديد الدمياطي الحكيم بالقاهرة وكان من تلاميذه قال: اجتمع ليلة هو والقاضي جمال بن واصل وأنا نائم عندهما، فلما فرغا من صلاة العشاء الآخرة شرعا في البحث، وانتقلا من علم إلى علم، والشيخ علاء الدين في كل ذلك يبحث برياضة ولا انزعاج، وأما القاضي جمال الدين فإنه ينزعج ويعلوا صوته وتحمر عيناه وتنتفخ عروق رقبته، ولم يزالا كذلك إلى أن أسفر الصبح، فلما انفصل الحال قال القاضي جمال الدين: يا شيخ علاء الدين أما نحن فعندنا مسائل ونكت وقواعد وأما أنت فعندك خزائن علوم»(4).
ومن مشهور مؤلفات ابن النفيس في غير الطب كتاب «طريق الفصاحة» في النحو، و«شرح كتاب التنبيه» في الفقه الشافعي، «مختصر في علم أصول الحديث» في علم الحديث النبوي الشريف، و«الرسالة الكمالية في السيرة المحمدية» في السيرة النبوية.
ولعل ذكر ما سبق وغيره من حال ما لا يُحصون أنتجتهم أمة الإسلام يرشدنا إلى خصيصة وُجدت زمن الحضارة الإسلامية دون الآن، وهي عدم تقسيمهم العلوم إلى ديني ودنيوي، بل تفانوا في تعلُّم كل ما يحقق عبودية الله في الأرض، واتخذوا صلاح الدنيا سُلَّمًا إلى جنة الآخرة، وصدق الله العظيم حيث يقول: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77).
____________________
(1) صحيح مسلم، مسلم بن الحجاج، برقم 2722/ المطبعة السلفية
(2) تاريخ الإسلام وَوَفيات المشاهير وَالأعلام، الذهبي، ج15 ص597 /دار الغرب الإسلامي/الطبعة الأولى.
(3) درء تناقض العقل والنقل، ابن تيمية، ج1 ص203 /نشرة الجامعة الإسلامية/ الطبعة الثانية.
(4) الوافي بالوفيات، الصفدي، ج20 ص183 /دار إحياء التراث/الطبعة الأولى.