افتتحت رسالة الإسلام بالقراءة والكتابة؛ (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ) (العلق)، ولكن لماذا خص الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بالأمية فلا يقرأ ولا يكتب؟ هل كان ذلك أكمل لمعجزة القرآن الكريم؟
جاء في «لسان العرب»: الأمي المنسوب إلى ما عليه جبلته أمه؛ أي لا يكتب؛ لأن الكتابة مكتسبة، قيل للعرب: الأُميون؛ لأن الكتابة كانت فيهم عزيزة أو عديمة، وبعث الله محمداً رسولاً وهو لا يكتب ولا يقرأ من كتاب، وكانت هذه الخلة إحدى آياته المعجزة(1).
إن من صفات نبينا صلى الله عليه وسلم المعروفة التي تدل على نبوته بيقين أنه كان «أُمياً»، قال تعالى: (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ) (العنكبوت: 48)، يقول ابن عاشور: «والمعنى أنك لم تكن تقرأ كتاباً حتى يقول أحد: هذا القرآن الذي جاء به هو مما كان يتلوه من قبل، و«لا تَخُطُّهُ»؛ أي لا تكتب كتاباً ولو كنت لا تتلوه، فالمقصود نفي حالتي التعلم، وهما التعلم بالقراءة والتعلّم بالكتابة، استقصاء في تحقيق وصف الأمي، فإن الذي يحفظ كتاباً ولا يعرف يكتب لا يُعدّ أمياً كالعلماء العمي، والذي يستطيع أن يكتب ما يُلقى إليه ولا يحفظ علماً لا يُعدّ أمياً مثل النُسَّاخ، فبانتفاء التلاوة والخط تحقق وصف الأمية»(2).
ورغم أميته، فقد رفع النبي صلى الله عليه وسلم شأن القلم والعلم، وجعل فداء أسرى «بدر» لمن كان يحسن القراءة والكتابة أن يعلم عشرة من غلمان المدينة.
العرب.. والقراءة والكتابة
تاريخياً كان هناك معلمون في الجاهلية، يعلمون الناس القراءة والكتابة، وقامت في مكة والمدينة، والطائف والحيرة والأنبار، ودومة الجندل وقبيلة هذيل، مدارس يتعلم فيها البنون والبنات الكتابة العربية(3).
وروى ابن أبي داود أن الشعبي قال: «سألت المهاجرين من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا: من أهل الحيرة، وسألنا أهل الحيرة من أين تعلمتم الكتابة؟ قالوا من أهل الأنبار»، وذكر أن بشراً بن عبدالملك -أخا ملك دومة الجندل- تعلم الخط من الأنبار، ولما تزوج بشر الصهباء بنت حرب علّم هذا الخط سفيان بن حرب، وقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «ومن بمكة من قريش تعلموا الكتاب من حرب بن أمية»(4).
كتابة الوحي
ما ذكر أعلاه يؤكد معرفة بعض الصحابة القراءة والكتابة حتى من قبل الإسلام؛ لذا كتبوا ما أملاهم النبي صلى الله عليه وسلم من القرآن الكريم منذ أول نزوله بمكة، وقد «بلغ كتّاب النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة وأربعين كاتباً كان بعضهم منقطعاً لكتابة الوحي»(5).
ومع ذلك، فإن المستشرقين أمثال بروكلمان يقول: «لعل نجوماً متفرقة من الوحي كانت قد كتبت في حياة النبي، ولكن أكثر الوحي يروى من الذاكرة شفاها فحسب»(6)، ويقول بلاشير: «يبدو أن فكرة تدوين مقاطع الوحي المهمة التي نزلت في السنوات السالفة لم تنشأ إلا بعد إقامة محمد في المدينة.. والتدوين كان جزئياً ومثاراً للاختلاف»(7)، وأقوالهم هذه محاولة لبث بذور الشك على عملية تسجيل القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وسلم، فالأخبار تؤكد أن القرآن كله قد كتب ولكنه كان مفرقاً ثم جمع في مكان واحد بين دفتي مصحف في عهد أبي بكر رضي الله عنه، وبيد من كتبه للنبي صلى الله عليه وسلم وسمعه وحفظه منه.
إعجاز أُمِّيَّة النبي صلى الله عليه وسلم
يقول الله تعالى: (الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ) (الأعراف: 157)، يقول ابن عاشور: «فالأمية وصف خصّ الله به من رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم، إتماماً للإعجاز العلمي العقلي الذي أيده الله به، فجعل الأمية وصفاً ذاتياً له، ليتم بها الرسالة، ليظهر أن كماله النفساني كمالٌ لَدُنِّيٌّ، إلهي؛ لا واسطة فيه للأسباب المتعارفة للكمالات، وبذلك كانت الأمية وصف كمال فيه، مع أنها في غيره وصف نقصان؛ لأنه لما حصل له من المعرفة، وسداد العقل، ما لا يحتمل الخطأ في كل نواحي معرفة الكمالات الحق، وكان على يقين من علمه، وبينة من أمره ما هو أعظم مما حصل للمتعلمين؛ صارت أميته آية على كون ما حصل له، إنما هو من فيوضات إلهية».
وقال ابن تيمية في تفسير (وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ): «بين سبحانه من حاله ما يعلمه العامة والخاصة، وهو معلوم لجميع قومه الذين شاهدوه، متواتر عند من غاب عنه، وبلغته أخباره من جميع الناس؛ أنه كان أمياً لا يقرأ كتاباً، ولا يخط كتاباً من الكتب، لا المنزّلة ولا غيرها، ولا يقرأ شيئاً مكتوباً، لا كتاباً منزلاً ولا غيره، ولا يكتب بيمينه كتاباً، ولا ينسخ شيئاً من كتب الناس المنزلة ولا غيرها، ومعلوم أن من يُعلم من غيره؛ إما أن يأخذ تلقيناً وحفظاً، وإما أن يأخذ من كتابه، وهو لم يكن يقرأ شيئاً من الكتب من حفظه، ولا يقرأ مكتوباً، والذي يأخذ من كتاب غيره؛ إما أن يقرأه، وإما أن ينسخه، وهو لم يكن يقرأ ولا ينسخ»(8).
شبهة ورد
هناك من يدّعي -أمثال الجابري- أنه ليس في القرآن ما يدل على أن النبي كان يجهل القراءة والكتابة، وفسّر آية العنكبوت «بأنه لم يُعرف عنك أنك كنت تتلو التوراة، وتخطها وتنسخها بيمينك»(9)؛ أي رغم أنك تعرف القراءة والكتابة لم تنسخ التوراة، وهذا مخالف لمجموع المفسرين في نفي القراءة والكتابة عموماً؛ فجاء عن الطبري: «وَما كُنْت تَتْلُو يعني: تقرأ من قبل هذا الكتاب الذي أنـزلته إليك، ولم تكن تكتب بيمينك، ولكنك كنت أمِّيًّا»، والقرطبي: «فلو كنت ممن يقرأ كتاباً ويخط حروفاً لارتاب المبطلون»، وابن كثير: «قد لبثت في قومك ومن قبل أن تأتي بهذا القرآن عمراً لا تقرأ كتاباً ولا تحسن الكتابة، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب».
وقال الجابري: إن «الأمي» من الأمم التي ليس لها كتاب منزل، وليس معناها من لا يعرف القراءة والكتابة، وإن الأمية ليست علامة على معجزة، فهل هذا ترويج لفكر المستشرقين، الذي أرادوا به أن يوجدوا طريقاً للطعن في القرآن، والقول بإمكانية أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم قرأ ونقل من كتب سبقته، ولكن شبهتهم داحضة.
واستدل المستشرق بلاشير بأن النبي يكتب، بقصة الحديبية لما قال سهيل: اكتب كما كنت تكتب من قبل باسمك اللهم، والرد أن اكتب بمعنى استكتبْ أي أملِ، وفي صحيح مسلم أن من كتب هو عليّ رضي الله عنه، قال لعليّ: «اكتب، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله»، فقال له المشركون: لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن اكتب محمد بن عبدالله، فأمر علياً أن يمحوها، فقال عليّ: لا والله، لا أمحوها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أرني مكانها»، فأراه مكانها فمحاها، وكتب ابن عبدالله، وقوله: «أرني مكانها» دليل على عدم معرفته للقراءة، و«كتب» هنا معناه أمر بالكتابة، كما يقال رجم ماعزاً؛ أي أمر بذلك.
ما كانت أمية النبي صلى الله عليه وسلم منقصة ولا عيباً نتحرج منها أو نحاول إثبات عكسها، بدعوى توقيره والدفاع عن شخصه العظيم، وهو المحمود في الأرض والسماء، بل أميته معجزة ربانية وفيوضات إلهية، يقوى بها يقيننا بنبوته صلى الله عليه وسلم، وبأن القرآن الكريم وحي من عند الله تعالى.
____________________
(1) ابن منظور، لسان العرب، دار صادر، 1414هـ، ج12، 34.
(2) ابن عاشور، التحرير والتنوير، الدار التونسية للنشر، 1984، ج21، 10.
(3) الكوتي، «الكتابة عند العرب في الجاهلية وصدر الإسلام»، مجمع اللغة العربية بدمشق، 1986، 61، ج 2، 348.
(4) ابن أبي داود، كتاب المصاحف، الفاروق الحديثة، 2002، 46.
(5) غانم الحمد، رسم المصحف دراسة لغوية تاريخية. العراق: اللجنة الوطنية للاحتفال بالقرن الخامس عشر الهجري، 1982، 96.
(6) بروكلمان، تاريخ الأدب العربي، دار المعارف 1959، ج1، 139.
(7) بلاشير، القرآن نزوله، تدوينه، ترجمته، تأثيره، دار الكتاب اللبناني، 1974، 29.
(8) ابن تيمية، الجواب الصحيح لمن بدل دين المسيح، دار العاصمة، 1999، ج5، 338.
(9) عابد الجابري، مدخل إلى القرآن الكريم، مركز دراسات الوحدة العربية، 2007، ج1، 92.