- النفع ليس لصيقًا بالعلم من حيث هو تصنيف قائم في المعارف الإنسانية
- يشمل الجهل في الإسلام الانشغال عن أولوية ما يجب العلم به وما تحصل به النجاة
- شتان بين العلم الناشئ عن حاجة حقيقية وقصد مشروع والترف الفكري والتخمة الثقافية
- كثير من المسلمين حين يشتغلون بأي تخصص يتعاملون معه بوصفه منفصمًا عن الدين
- أول الجهل الذي يجب على المسلم رفعه الجهل بالتصور الشرعي للوجود ككل
إذا كان معنى العلم لغة: المعرفة والإدراك، فمعنى العلم من حيث القيمة هو: العلم الذي يعني صاحبه أن يتعلمه، فليس كلّ علم نافعًا قطعًا وبالضرورة، إذ النفع ليس لصيقًا بالعلم من حيث هو تصنيف قائم في المعارف الإنسانية، فقد استعاذ المصطفى عليه الصلاة والسلام من أربع مُهلكات، جعل أوّلها العلم الذي لا ينفع: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ، وَمِنْ قَلْبٍ لا يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لا يُسْتَجَابُ لَهَا» (رواه مسلم)، فالعبرة بالآثار المترتبة على تعلّم ذلك العلم، على مستوى الحياة والحركة والبناء به.
لذلك فالعلم في التصوّر الشرعي هو علم مســؤول، أي يُسأل صاحبه عما عمل فيه وينتفع في عمله بما تعلّمه: «لا تزولُ قدما عبدٍ يومَ القيامةِ حتى يُسأَلَ عن شبابِه فيما أبلاه وعن عُمُرِه فيما أفناه، وعن مالِه من أين اكتسبَه وفيما أنفقَه، وعن عِلمِه ماذا عَمِل فيه» (رواه الترمذي)، ومفهومنا عن العلم والثقافة يُسهِم حقيقة بطرف في كلّ الأسئلة: فحين نُسأل عن أعمارنا فيم أفنيناها وشبابنا فيم أبليناه، فجزء كبير من ذلك ننفقه في التعلم والمعرفة، وحين نُسأل عن المال فيم ننفقه، فجزء كبير منه كذلك ننفقه على وسائل طلب العلم والمعرفة.
وشتّان بين العلم الناشئ عن حاجة حقيقية وقصد مشروع، فيُحدِث أثرًا أو يكون سببًا في أثر نافع؛ والمعرفة الباردة أو التَّرَف الفكري أو التُّخَمَة الثقافية، أو غير ذلك من مسميات لكل نوع معرفة يتوهّم طالبها أهميتها لمجرد مجاراة عرف سائد أو موضة ثقافية، وإنّ العلم يُفْنِي أعمارًا في طلبه، ويستهلك الفكر في تحصيله ويشغل القلب في تقليبه فأنّى يتساوى علم يقدَح زِناد الفكر وشرارة البصيرة وقريحة الفهم، مع ذاك الذي ينفخ صاحبه كالطبل الأجوف، طنّان رنّان في مبناه، هزيل سقيم خاوٍ في معناه؟!
معنى الجهل في التصور الشرعي
الجهل في تصوّر الإسلام ليس مجرّد قلة العلم أو انعدامه، بل يشمل كذلك الانشغال عن أولوية ما يجب العلم به وما تحصل به النجاة، ولو كان ذلك الانشغال بسبب تحصيل علوم أخرى تالية في الأولوية، مصداق قوله تعالى: {يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} (الروم: 7)، وجاء في تفسير ابن كثير للآية، عن الحسن البصري أنه قال: «وَاللَّهِ لَبَلَغَ مِنْ أَحَدِهِمْ بِدُنْيَاهُ أَنَّهُ يَقْلِبُ الدِّرْهَمَ عَلَى ظُفْرِهِ، فَيُخْبِرُكَ بِوَزْنِه، وَمَا يُحْسِنُ أَنْ يُصَلِّيَ!»، فكم من عالم ومهندس وطبيب وغيرهم من البارعين في علم من علوم الدنيا، ولعله لا يميز أركان الوضوء أو الصلاة وسننهما وواجباتهما، أو يرتكب فيهم أخطاء وهو يحسب أنه يؤدي ما عليه!
والأدهى أن كثيرًا من المسلمين حين يشتغلون بأي تخصص، لا يقدّمون كلام التخصص على كلام الدين فحسب، بل يتعاملون مع التخصص بوصفه منفصمًا عن الدين! فتجد الطبيب –مثلًا– لعله جاهل بما لا يسعه جهله بوصفه مسلمًا، ثم يضيف له الجهل بفقه ما يختص به كطبيب! وهكذا صار الدين للجامع والتخصص للجامعة، وما لله لله وما لقيصر لقيصر! مع أن لفظة الدين لغة تعني ما يَدين له صاحبه، أي يخضع وينقاد، فيصبغ رؤيته للحياة في مختلف نواحي الوجود، التي تشمل ضمن ما تشمل حدود العلاقات ونهج المعاملات ومعالجة مختلف العلوم، هكذا يكون تطبيق الدين الذي يعتقده صاحبه، أن يجعل حركته في الحياة طوعًا له، لا أن يجعل الدين هو طوع حركته، فيعيد تأويله وصياغته وقصقصته وفاقًا!
الفصم بين علوم الدين والدنيا
يتحجج المتحججون بقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ» (رواه مسلم) للفصم بين علوم الدين وعلوم الدنيا خاصة، إن لم يكن بين الدين والدنيا عامة! والحق أن السياق الكامل للحديث كما ورد في صحيح مسلم: «أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ مَرَّ بقَوْمٍ يُلَقِّحُونَ، فَقالَ: لو لَمْ تَفْعَلُوا لَصَلُحَ قالَ: فَخَرَجَ شِيصًا، فَمَرَّ بهِمْ فَقالَ: ما لِنَخْلِكُمْ؟ قالوا: قُلْتَ كَذَا وَكَذَا، قالَ: أَنْتُمْ أَعْلَمُ بأَمْرِ دُنْيَاكُمْ»، والمُستفاد من الموقف والمقولة ذكره أهل العلم في المُصنّفات المعتبرة، منها عنونةُ الإمام النووي للحديث في شرحه على مسلم: «وُجُوبِ امْتِثَالِ مَا قَالَهُ صلى الله عليه وسلم شَرْعًا دُونَ مَا ذَكَرَهُ مِنْ مَعَايِشِ الدُّنْيَا عَلَى سَبِيلِ الرَّأْيِ»، ومنها قول القرطبي في شرحه «المُفهِم»: «إثبات عصمته صلى الله عليه وسلم من الخطأ في التبليغ عن ربه».
والتطبيق العملي الصحيح هو أنه يلزم المسلم المشتغل بأي مشغلة في الحياة –كالفلاحة أو الزراعة في سياق الحديث– أن يعلم حدود الله تعالى فيها أولًا، من حلال وحرام ومندوب ومكروه ومباح؛ ثم حيث أباح الشارع له مساحة رأي شخصي أن يرى ما يرى، وفي مساحة الرأي المباحة هذه يتفاوت الناس في علمهم بأمور دنياهم بحسب اختصاصهم فيها: فالفلاح أقدر من الطبيب على تحديد نوع الثمر الأصلح للزراعة في كل تربة بحسبها، لكن إذا كان الطبيب هو صاحب الأرض وشاء أن يخالف رأي الفلاح المختص فله ذلك، كذلك الطبيب الذي يعالج مشكلة نفسية ذات صلة بالشهوة الجنسية – مثلًا – لا بد له من الإلمام الراسخ بقدر من العلم الطبي البدني أو الحيوي كما النفسي، وذلك من حيث كونه طبيبًا، ثم من حيث كونه طبيبًا مسلمًا يعالج مريضًا مسلمًا، لا بد له من المعرفة الراسخة بما يتعلق إجمالًا بالتصور الشرعي للجنس والشهوة وأحكامهما، خاصة في قضايا ومستجدات العصر كالميول الشاذة أو إدمان الإباحيات، بما سيتطلب منه تَعَلُّم قَدْرٍ يتجاوز ما يتعلمه المسلم عادة لتطبيقه الشخصي، بهذا ينضبط في فهمه ميزان تقدير مراحل العلاج ومادّته، وغربلة ما يرجع إليه من موارد أجنبية، وما ينتقي من عِلمِها أو يَـذَرْ.
وأما مسألة الأخذ عن الآخرين والانتفاع بعلومهم، فالوسط فيها أن نرسخ أوّلًا فيما جاءَنا من الحقّ الناصع، قبل النظر فيما لدى الغير مما سيكون قطعًا مَشوبًا بالباطل وتخليطات عارية عن نور الله تعالى وهَدْي شرعه، بهذا نكون قادرين على غربلتها بحقّها، والانتفاع بما يستحق الانتفاع به على وجهه، فشتّان بين أن تكون الحكمة ضالّة المؤمن وأن تكون ضَلالَه! كُن مؤمنًا أولًا ثم انشُد الحكمة، لكن أنّى تنشد حكمة بغير إيمان يُبيّن لك أية حكمة تنشُد، وأين تنشدها، وكيف تنشدها؟!
علوم الاضطرار
بناء على ما سبق، فأول الجهل الذي يجب أن يعتني المسلم برفعه عن نفسه هو الجهل بالتصور الشرعي للوجود ككل، ولا سبيل لرفع ذلك الجهل إلا بالتعلم الجاد لـ«علوم الاضطرار» قبل أي نوع آخر من العلوم، وهذا التعبير مستوحى مما جاء في «مجموع الفتاوى» لابن تيمية، الذي ذكر في فصل «ضرورة الشرع بالنسبة لحياة الإنسان»: «الْإِنْسَانَ مُضْطَرٌّ إلَى الشَّرْعِ؛ فَإِنَّهُ بَيْنَ حَرَكَتَيْنِ: حَرَكَةٌ يَجْلِبُ بِهَا مَا يَنْفَعُهُ، وَحَرَكَةٌ يَدْفَعُ بِهَا مَا يَضُرُّهُ، وَالشَّرْعُ هُوَ النُّورُ الَّذِي يُبَيِّنُ مَا يَنْفَعُهُ وَمَا يَضُرُّهُ.. وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالشَّرْعِ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الضَّارِّ وَالنَّافِعِ بِالْحِسِّ، فَإِنَّ ذَلِكَ يَحْصُلُ لِلْحَيَوَانَاتِ الْعُجْمِ، فَإِنَّ الْحِمَارَ وَالْجَمَلَ يُمَيِّزُ بِهِ بَيْنَ الشَّعِيرِ وَالتُّرَابِ بَلْ التَّمْيِيزُ بَيْنَ الْأَفْعَالِ الَّتِي تَضُرُّ فَاعِلَهَا فِي مَعَاشِهِ وَمُعَادِهِ كَنَفْعِ الْإِيمَانِ وَالتَّوْحِيدِ ..».
تأمل في عبارة «الإنسان مُضطر للشّرع»، أي إلى معرفته، وتجد في مادة «ضرر» في «لسان العرب»: «الِاضْطِرَارُ: الِاحْتِيَاجُ إِلَى الشَّيْءِ؛ واضْطُرَّ إِلَى الشَّيْءِ أَيْ أُلْجِئَ إِلَيْهِ»، فانظر إلى دقة تخيّر لفظة الاضطرار في ذلك الموضع، وكم إنها تبرر انتشار التوهان والحيرة بين أجيال المسلمين اليوم في إسلام حياتهم وحياة إسلامهم، لافتقارهم لتلبية ذلك الاحتياج الاضطراري كما تُلبّى الاحتياجات الأخرى على مدى سنوات النشأة، فإذا بالأجساد تكبر والأعمار تتقدم، فيستقيم للصغير شأنه حين يكبر في حاجات الدنيا والمعاش الحسي، وتظل حركته متخبطة طفولية في جوانب إقامة الوجود ونهج حياته ككل على أمر الله تعالى، لأنه لم يُحكِم فهمه بعد، ولا استقام تصوره الناضج له.