المتابع لطرق التعليم الحديثة يجد كثيراً من المتبنيين لأحدها يملؤهم العبث والتخبط، فبين من يعتمد المناهج الغربية، ومن يأخذها كما هي ثم يسمها بالسمة الإسلامية من غير أصالة الفكرة، فيجد الإنسان نفسه تائهاً أيها يعتمد، وأيّ معلم يتبع طرقه ووسائله، مع أنه إذا تأمل الوحي الشريف يجد ذلك من أصيل وظائف النبي صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: (هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِن كَانُوا مِن قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ) (الجمعة: 2)، وقوله صلى الله عليه وسلم: «إنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْنِي مُعَنِّتاً، وَلَا مُتَعَنِّتاً، وَلَكِنْ بَعَثَنِي مُعَلِّماً مُيَسِّراً» (رواه مسلم)، فهل يصح ترك طريقة من لا ينطق عن الهوى لتقليد غيره ممن يصيب ويخطئ؟!
ومن تتبع السيرة النبوية ليقف على خصائص طرق التعليم النبوي يجد أرضاً خصبة تغنيه عن كل طريق آخر، وهذه بعضها:
1- عدم محدودية مكان التعلم:
قد يتوهم البعض من وجود دار الأرقم بمكة، ثم المسجد النبوي بالمدينة، اللذين كانا مقري التعليم في هذا العهد، أن ذلك شبيه بمدارس اليوم، وهذا غير صحيح؛ فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يُعلم الصحابة الكرام في البيت والطريق والسوق وعلى الناقة وفي السفر وغيرها، فعن عبدالله بن عمرو بن العاص قال: لقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف على ناقته في حجة الوداع بمنى للناس يسألونه، فما سئل عن شيء قدِّم ولا أخِّر إلا قال: «افعل ولا حرج» (رواه البخاري)، فعدم محدودية مكان التعليم يُفهم الطالب دوام حاجته للعلم وطلبه له وتتبعه في كل شأن يخصه.
2- استمرارية العملية التعليمية:
وأدى عدم محدودية مكان التعلم إلى استمرارية العملية التعليمية دون كلل أو ملل في كل وقت ومع كل حال، حيث كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخير من المواضع ما يتخلل فيها أصحابه بالموعظة، ولم يقف التعلم عند حد ينتهي فيه، فبقي حاله في إرشاد وتوجيه حتى أتم الله تعالى الدين وقت وفاته، وقد أوصى بتعهد العلم كما في قوله: «تعاهدوا هذا القرآن؛ فوالذي نفس محمد بيده! لهو أشد تفلتاً من الإبل في عقلها» (متفق عليه).
3- تنمية القدرات:
لم يكن المسجد مكاناً للصلاة أو محلاً للدرس فحسب، بل كان ساحة للتدريب وتنمية المهارات البدنية المعينة على الجهاد، والمهارات الاجتماعية، والسياسية، قالت عائشة رضي الله عنها: «كانَ الحَبَشُ يَلْعَبُونَ بحِرَابِهِمْ، فَسَتَرَنِي رَسولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ وأَنَا أنْظُرُ، فَما زِلْتُ أنْظُرُ حتَّى كُنْتُ أنَا أنْصَرِفُ، فَاقْدُرُوا قَدْرَ الجَارِيَةِ الحَدِيثَةِ السِّنِّ، تَسْمَعُ اللَّهْوَ» (رواه البخاري)، فلم تكن وسائل المعرفة مقتصرة على الإلقاء فحسب، وإنما كانت عملية بناء كاملة تحقق الإيمان وصحيح الفكر والتواصل الاجتماعي والقدرات البدنية والنفسية.
4- تعلم الكتابة العربية واللغات:
تجلى حرصه صلى الله عليه وسلم على تعليم الكتابة واللغات في موقف فداء أسرى «بدر»، فعن عبدالله بن عباس رضي الله عنهما قال: «كان ناسٌ من الأَسْرى يومَ بَدْرٍ لم يكُنْ لهم فِداءٌ، فجعَلَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ فِداءَهم أنْ يُعلِّموا أولادَ الأنصارِ الكتابةَ» (رواه أحمد والحاكم)، فكان هذا بمثابة درس عملي على أهمية تعلم الكتابة وحاجة المسلمين لها لتدوين القرآن والحديث -فيما بعد- ثم مختلف العلوم الإسلامية، ومثله بخصوص تعلم اللغات، ففي حديث زيد بن ثابت رضي الله عنه قال: أمرَني رسولُ اللَّهِ صلَّى اللَّهُ علَيهِ وسلَّمَ أن أتعلَّمَ لَهُ كتابِ يَهودَ قالَ: «إنِّي واللَّهِ ما آمَنُ يَهودَ علَى كتابي»، قالَ : فما مرَّ بي نِصفُ شَهْرٍ حتَّى تعلَّمتُهُ لَهُ، قالَ: فلمَّا تَعلَّمتُهُ كانَ إذا كتبَ إلى يَهودَ كتبتُ إليهِم، وإذا كتَبوا إليهِ قرأتُ لَهُ. (رواه الترمذي)، فقد وجهه النبي صلوات الله عليه وشحذ همته إلى مهمة عظيمة كهذه جعلته يتعلم لغة أجنبية عنه في أسبوعين فحسب، ويفهم من ذلك أيضاً أهمية ربط الطالب بأهداف واضحة ومعرفة ثمرتها لكي يجتهد في تعلمها.
5- التدرج بالإجمال قبل التفصيل:
جاء في حديث جندب بن عبدالله رضي الله عنه قال: «كنَّا معَ النَّبيِّ صلَّى اللَّهُ عليهِ وسلَّمَ ونحنُ فتيانٌ حزاورةٌ فتعلَّمنا الإيمانَ قبلَ أن نتعلَّمَ القرآنَ، ثمَّ تعلَّمنا القرآنَ فازددنا بِه إيماناً» (رواه ابن ماجه)، فلم يجعل النبي صلى الله عليه وسلم همه حفظ الصبيان القرآن أو حتى فهم جميعه، ولكن علمهم الإيمان أولاً ليُنشئ فيهم القواعد؛ ثم علمهم القرآن ليكتمل به بناؤهم علمياً وعملياً.
6- جماعية المجالس:
كانت مجالس النبي صلى الله عليه وسلم تضم جماعات من مختلف الأعمار سواء من العجائز أو الشباب أو الصغار؛ يأخذ كل منهم من العلم على قدر فهمه، روى سهل بن سعد رضي الله عنه قال: أُتِيَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم بقدح فشرب، وعن يمينه غلام هو أحدث القوم، والأشياخ عن يساره، قال: «يا غلام أتأذن لي أن أُعْطِيَ الأشياخ؟» فقال: ما كنتُ لأُوثِرَ بنصيبي منك أحداً يا رسول الله، فأعطاه إيَّاه. (رواه البخاري)، وإن مجالس كتلك يجلس بها صبي وسط المشايخ ثم يُحترم دوره ويُسأل عن رأيه ويُقدر أمره فكيف سيكون في شبابه؟!
7- التعليم بالتطبيق:
إن التعليم بالتطبيق أوقع أثراً من التعليم بالتلقين ولا شك، وهذا جار على الصغار والكبار سواء، ومن ذلك ما حدث في صلح الحديبية من امتثال الصحابة بالحلق ونحر الهدي اقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لما فعل ذلك رغم تأخرهم عنه حين أمرهم به (رواه أحمد).
8- مراعاة الفروق الفردية وتنوع وسائل العرض:
يُلاحظ في الأحاديث المروية تنوع الجواب النبوي عن السؤال الواحد لاختلاف السائلين وأحوالهم وأفهامهم، فلما جاء النبيَّ صلوات الله عليه رجلٌ يقول: أوصني؛ فيكون جوابه مرة: «لا تغضب» (رواه البخاري)، وأخرى يكون جوابه: «عَلَيْكَ بِتقوى اللَّهِ» (رواه ابن حبان، ومثله في الترمذي)، وثالثة فيكون جوابه: «أوصيك ألا تكون لعاناً» (صحيح الترغيب والترهيب)، ومن ذلك يجد الباحث في السيرة تنوع أساليب النبي صلى الله عليه وسلم في تعليم الصحابة بأفضل الأساليب وأشدها تأثيراً وأقربها فهماً إلى عقولهم.
وفي الختام؛ ينبغي على كل مربٍّ ومعلم أن يسعى لاستخلاص خصائص التعليم النبوي، فإن ذلك معين لا ينصب، وإن كان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو القدوة التي أُمرنا بالتأسي بها في العمل فمن باب أولى أن يشمل ذلك أيضًا التعليم؛ (لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا) (الأحزاب 21).