اتخذ مشروع إعادة تأويل التراث موقعاً متزايداً في الحياة الفكرية مع نهايات القرن الماضي، حيث امتد أفقياً مع انتشاره في بلدان إسلامية متعددة، ورأسياً بتنوع الموضوعات أو المداخل وتعدد طرائق ومناهج التحليل الذي ينتج عنه اختلاف في النتائج، ويحظى القرآن باهتمام وعناية من التأويليين؛ لأنه النص المؤسس للقيم والمعاني والأفكار والممارسات والتشريعات، والمساس به يعني هدماً للثوابت المستقرة التي تأسست عليها المجتمعات الإسلامية منذ قرون.
وعلى هذا الأساس، انطلق مشروع إعادة التأويل، ويمكن أن نعد محاولات فضل الرحمن الباكستاني هي البداية الجادة له؛ إذ هو أول من أرسى أسس القراءة التأويلية، إذ سبقته محاولات باكرة أقل أهمية، مثل محاولة محمد أبو زيد من خلال تفسير «الهداية والعرفان»، ومحاولة أمين الخولي في «التفسير البياني»، كما انتقلت بعده إلى عدد من المفكرين الذين أفادوا مما كتب ونالوا حظاً وافراً من الذيوع وأثارت مشروعاتهم الفكرية جدلاً لم ينقضِ حتى بعد رحيلهم، أمثال: نصر حامد أبو زيد، محمد أركون، محمد عابد الجابري، ومحمد شحرور، وحسن حنفي، وعبدالمجيد الشرفي.. وغيرهم.
الأسس النظرية لمشروع إعادة التأويل
ينطلق رواد مشروع إعادة تأويل التراث من بضع مسلَّمات منهجية لا تخلو منها أي محاولة تأويلية، ولعل أهمها:
1- عجز المناهج الكلاسيكية الإسلامية عن إنجاز قراءة للنص الديني تجمع بين الإسلام كرسالة صالحة لكل زمان ومكان، ومقتضيات العصر الحديث، ولذلك تقتضي الضرورة الاستعانة بالمناهج الحداثية للوصول إلى قراءة أعمق للنص والظاهرة الدينية بأسرها.
2- العبث بمحتوى المفاهيم التأسيسية كالوحي والنبوة والدين والكتاب وتغييرها بمحتويات أخرى تقطع مع المحتوى التراثي المستقر عبر قرون.
3- التوسل بمناهج التفكيك والبحث التاريخي الغربي من أجل التشكيك في الوقائع التأسيسية مثل التدوين وغيره، وذلك من خلال تتبع الآراء والمواقف والأقوال الشاذة واتخاذها منطلقاً لرواية تاريخية بديلة تنفي الرواية السائدة.
4- رفض كل ما يتعلق بالغيبيات من قبيل وجود الملائكة والجن من الرسالة المحمدية، وقبول ما يتفق مع المعطى الحسي والعقلاني.
وإذا ما انتقلنا من التعميم إلى التخصيص بحثاً وراء المشاريع الفردية التي سعت إلى مقاربة القرآن، فإننا يمكن أن نتخير محاولة د. حسن حنفي التي توسلت صراحة بالماركسية في سعيها لبناء نظرية في التفسير.
حسن حنفي: نحو بناء نظرية مادية في التفسير
في مقال له عنوانه «هل لدينا نظرية في التفسير؟»، يناقش حسن حنفي مذاهب التفسير الإسلامي، ويقرر أنه ليس لدينا نظرية تفسيرية، مُرجعاً غيابها إلى أن تفسيرنا «لم يتعد مرحلة الشرح والتفصيل والتكرار وبيان ما لا يُحتاج إليه في كثير أو قليل في حياة الناس.. فيدور النص على نفسه مستمداً معانيه من الإسهاب في المعنى الأولي للآية»، وبهذه الكيفية لا يمكن نعته بالتفسير؛ لأن غاية التفسير وصل الوحي والواقع، والتفاسير التراثية ومناهجها لا تقيم هذه الصلة(1)، وليس هذا مأخذه الوحيد على مناهج التفسير، بل هناك عيوب يمكن إجمالها بنفس تعبيراته في الآتي:
1- التفسير الموروث ما زال نظرية في وجود الله أكثر من كونه نظرية في وجود الإنسان، فهو تفسير إلهي عقائدي كلامي، والتفسير المطلوب في عصرنا بعد ثبوت وجود الله وخلق العالم هو إقامة نظرية في وجود الإنسان الفردي والاجتماعي، محاولاً وصفه في مواقفه مع العالم والآخرين.
2- التفسير الموروث ما زال مرتبطاً بظروف البيئة لأولى التي نشأ فيها الإسلام، مرتبطاً بها من النواحي الاجتماعية والاقتصادية، فهو تفسير يؤمن بالتفاوت بين الطبقات، وبالقيم الروحية ويتخذ منها وسيلة لتسكين الناس.
3- التفسير الموروث لا يبدأ بالنقد والدعوة إلى الإصلاح والتغيير الجذري للأوضاع المنافية للشرع، بل يكرسها ويمنحها المشروعية.
4- التفسير الموروث يغلب عليه التفسير اللغوي، وهو يفترض غموض المعنى وخفاءه، وأنه بحاجة إلى جهد زائد لفهمه، دون استخدام الخبرة الحية للمفسر التي هي الوجه الآخر للنص.
وبينما يحمل حنفي على التفسير الموروث وطرائقه وعلومه المساعدة، إلا أنه يستبقي من المنظومة التراثية عنصراً وحيداً؛ هو أسباب النزول، ويجعل منه مدار تفسير النص وفهمه، ولكن ماذا تعني أسباب النزول لديه؟ وكيف يوظفها أيديولوجياً؟
يقارب حنفي علم أسباب النزول مقاربة ماركسية ممثلة في المنهج الصاعد والمنهج النازل، فيدعي أن الوحي تشكل في الواقع من خلال أسباب النزول، وصعد منه ولم ينزل إليه، وحسب تأويله فالوحي صاعد من الواقع وليس متنزلاً، كما ينص القرآن بعبارات قاطعة.
وتعني أسباب النزول لدى حنفي أشياء ثلاثة، هي: أسبقية الواقع على النص؛ أي أن الوحي لم يفرض على الواقع ابتداء بل كان استجابة لندائه، وأن المصلحة -وليس الهداية- هي المقصد الرئيس للوحي، ويمكن إدراكها بالفطرة بعيداً عن النص، وأن نختار من الوحي في كل مناسبة ما نجد فيه حلاً لمشكلاتنا، ذلك أن كل محاولة كلية لتفسير الوحي تعارض كيفية نزول الوحي الذي نزل منجماً.
وبالنظر في هذه الخصائص، نجد أنها تستبطن فكرتين أساسيتين؛ أولهما تحول النص المطلق من كونه مركزاً إلى كونه هامشاً أو بالأحرى تابعاً للواقع النسبي يدور في فلكه ويصطبغ بذاتيه، وثانيهما بتر النص وتقليصه عبر عملية إقصاء نهائية للنصوص التي لا تمس الواقع كالآيات التي تتحدث عن الخلق ومصير الإنسان الأخروي، وهكذا يصبح لدينا نص مبتور لا يحيلنا لأي معنى غيبي متجاوز.
لم يكن نقد د. حنفي للتفسير التقليدي سوى مقدمة ضرورية لطرح معالم منهجه التفسيري المنشود الذي يتصف ببضع خصائص، هي:
1- الجزئية، وتتمثل في تفسير أجزاء معينة من القرآن ذات أولوية نابعة من احتياجات الواقع ومتطلباته، فالمطلوب تفسير حاجات المسلمين وليس تفسير القرآن كاملاً، حسب تعبيره.
2- الموضوعية؛ وتعني تناول موضوعات بعينها ودراستها ضمن أنساق كلية عوضاً عن «تفسير القرآن جزءاً بعد جزء، حزباً بعد حزب، سورة بعد سورة.. نفسر ما نعرفه وما لا نعرفه، ما نحتاجه وما لا نحتاجه، تفسير لا في زمان ولا في مكان».
3- الزمانية؛ ويقصد بها أنه يبتغي تقديم صورة صورة للقرآن لجيل بعينه وليس لكل الأجيال، وفي عصر بعينه وليس لكل العصور، والتفسير على هذا النحو له غاية عملية وليست نظرية؛ وهي تغيير أحوال المسلمين، وهو مرتبط بالمسلمين في التاريخ ولا يبحث عن الإسلام كحقيقة أبدية خارج التاريخ.
4- الواقعية؛ أي أنه يبدأ من واقع الناس ومشكلاتهم وأحزانهم ولا يبدأ من فراغ أو من فكرة نظرية مجردة.
5- المقاصدية؛ ويقصد بها كونه تفسيراً بالمعنى والمقصد وليس تفسيراً بالحرف واللفظ، فالوحي مقاصد كما يقول الأصوليون، والشرع يدور حول المقاصد الخمس والمصلحة أساس الشرع.
6- التجريبية؛ وتعني دمج التجارب الحية التي يعيشها المفسر ولا يستبعدها من التفسير؛ لأن التفسير جزء من الحياة.
7- الجماعية؛ لا ينهض المفسر بعبء التفسير وحده، وإنما يتعاون معه علماء الاجتماع والسياسة والاقتصاد، لأنها العلوم التي تقوم بإحصاء الواقع ورصده وتحليل بياناته.
وما يدعو إليه حنفي ليس لا يعد تفسيراً، إذ التفسير لا بد أن ينطلق من النص متوسلاً بأدوات ومناهج وثيقة الصلة به، أما الانطلاق من الواقع والدوران حوله فلا ينتج إلا «تفسيراً» للواقع ليس له تعلق بالنص في قليل أو كثير.