هذه القصة رواها الشيخ علي الطنطاوي في كتابه «مع الناس»، وقد أُذيعت عام 1958م، يقول فيها:
إنه ورد عليَّ في بريد هذا الأسبوع كتاب من أخ من أوساط الموظفين، كتب إليَّ ثائراً فائراً، يذم الدهر ويشكو الزمان؛ لأن مرتبه وهو الذكي العالِم المستقيم (كما يقول عن نفسه) لا يبلغ ربع ما يناله زميل له ليس له ربع ذكائه ولا علمه، وكلما طالَبَ منعوه ما هو حق له وحرموه منه، فكان تحكّم بشر مثله في رزقه أشدَّ عليه من ضيق الرزق.. إلى آخر ما قال.
ولقد مرّ بي -أنا- مثل هذه المحنة، حين خطبت أيام الحكم العسكري في الشام، من بضع سنوات، تلك الخطبة التي حملها المذياع من منبر مسجد الجامعة السورية إلى آفاق الأرض، فأغضبت عليَّ الحكومة حتى نال مني الحاكمون في منصبي وفي رزقي.
وقعدت عشيةً مَغيظاً محنقاً، لا لنقص المرتب وضياع المنصب، بل غضباً لحريتي وكرامتي، وأنَفَة من أن يتحكم فيّ إنسان مثلي ويُملّك التصرف في عملي وفي رزقي.
وأظلم عليَّ الليل وأنا مستغرق ذاهل، أداري من نفسي غضبة أخشى أن تتفجّر تفجّر القنبلة.. وكان في غرفتي شعبة من الرادّ، فسمعت القارئ يقرأ حتى بلغ قوله تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا) (الزخرف: 32)، فتنبّهت إليها كأني ما سمعتها قطّ، وكأنما نزل بها جبريل الساعة على قلب محمد صلى الله عليه وسلم، وأحسست أنها جاءت برداً على كبدي وسلاماً، فسكت عني الغضب وامَّحَتْ عن عيني الغشاوة، ورأيت حقيقة القدر رأي العين، وقلت: يا رب، إن كنت أنت الذي قدّر وقسم وأنت الذي أعطى ومنع فأنا راضٍ بما قسمت لي.
____________________
من كتاب «مع الناس».