لا يمكن تناول التأثيرات السلبية للأغاني والأفلام الأجنبية على المراهقين والشباب، بمعزل عن أزمة انحسار البدائل الفنية المتاحة، في مواجهة سيل من الإنتاج الأمريكي والغربي والآسيوي.
ولعل انتشار أغاني ما يعرف بـ«البوب الكوري» (K-Pop) بين الشباب العربي، أكبر دليل على أهمية التحرك لتوفير وإيجاد بدائل فنية متميزة تعبر عن ثقافتنا وهويتنا، وتستطيع الاستئثار بحصة ثمينة من اهتمامات المراهقين.
هنا.. النقد ليس كافياً لمواجهة الزخم الكوري والغربي، وإجهاض حالة الهوس بكل ما هو غربي وشاذ، خاصة في ظل ما تروج له الأغاني الأجنبية من إلحاد وانحلال أخلاقي، يفرض علينا تحدياً بشأن إيجاد البديل، والتعامل بواقعية مع الأزمة.
ومن الخطأ التوقف فقط عند إصدار أحكام التحريم، وصيحات التحذير، وخطاب النقد، بل من الحكمة عدم دفن الرؤوس في الرمال، ودراسة جوانب وأبعاد القضية، وتلمس احتياجات الشباب النفسية والعاطفية، ومناقشة مشكلاتهم وقضاياهم، من خلال منظور فني.
ومن الأهمية الولوج إلى هذا المضمار، وفق ثقافتنا وهويتنا، وبما يحفظ قيمنا، عبر تخصيص موارد مالية للإنتاج الفني الهادف، وتأسيس مدارس فنية تراعي أخلاقيات المجتمع، وتقدم فناً راقياً سواء من خلال الدراما، أو المسرح، أو الأفلام، والأغاني، وهو ما يعرف في أدبيات الحركات الإسلامية بــ«أسلمة الفن».
ويمكن الزعم أن الحاجة إلى التسلية والترفيه باتت صناعة رائجة، وحاجة ضرورية، ورغبة تستعر في نفوس الصغار والكبار، لا يجب وأدها، بل من المهم ترويضها وإشباعها بشكل سليم ونافع وممتع.
سينمائياً؛ على سبيل المثال، وعلى فترات متباعدة، قدمت السينما العربية أفلاماً هادفة، عالجت قضايا تاريخية، وروجت قيماً نبيلة، ووثقت حقباً مهمة في تاريخ الأمم والشعوب، منها أفلام «إحنا بتوع الأتوبيس»، و«البريء»، و«الرسالة»، و«صلاح الدين الأيوبي»، و«عمر المختار»، و«القادسية».. وغيرها، وهي أعمال أوجدت بديلاً فنياً راقياً لعشاق فن السينما.
درامياً؛ مثلت مسلسلات مثل «عمر»، و«قيامة أرطغرل»، و«قيامة عثمان»، و«عمر بن عبدالعزيز»، و«الوتد»، و«المال والبنون»، و«أنا وإنت وبابا في المشمش»، و«ضمير أبلة حكمت»، و«لن أعيش في جلباب أبي»، و«الحسن والحسين»، و«رايات الحق».. وغيرها، نقلات فنية نوعية في معالجة قضايا التاريخ والمجتمع.
غنائياً؛ فرض الإنشاد نفسه على الساحة الفنية كإنتاج راق وهادف، تطور من الابتهال الديني، إلى الإنشاد السياسي والجهادي، خاصة بعد نكسة عام 1967م، وعاد وبرز خلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى والثانية، وهو ما يجذب شريحة من المستمعين، ويأسر قطاعاً من الشباب، من ذوي الميول الإسلامية.
ولا شك في أن عدداً ممن قدموا هذا اللون، حققوا نجاحاً كبيراً، بداية من سيد النقشبندي، ونصر الدين طوبار، إلى رائد الإنشاد الحركي المنشد السوري الراحل أبو مازن الذي ألهب حماس أبناء الحركة الإسلامية بكلماته وأناشيده، التي تعالج شجن الاغتراب، وقسوة الأسر، ومحنة الأمة، وآلام المسلمين.
كذلك هناك المغني السوري ماهر زين الذي حققت أغنيته «يا نبي سلام عليك» نجاحًا هائلًا في كل دول العالم، والمغني البريطاني المسلم يوسف إسلام، الذي أصبح منشداً لأغان تهتم بالدين والقيم والأخلاق، والمنشد الأردني إبراهيم الدردساوي، والمنشد الإماراتي بوخاطر.. وغيرهم.
حديثاً، وخلال العقدين الأخيرين، برز المطرب المصري حمزة نمرة، وذاع صيته، معبراً عن لون جديد من الأغنية الشبابية، بكلمات هادفة، وروح قيمية، ومعان نفيسة، وإيقاع موسيقي راق، دون ابتذال، أو استعانة براقصات، أو حركات خادشة للحياء.
وبالإضافة إلى التنويع في الأنماط الموسيقية، لم تعتمد ألبومات نمرة على الرومانسية فقط، بل تضمنت أبعاداً سياسية، ودينية، واجتماعية، وغلب على بعض أغانيه طابع المواعظ والنصح، إضافة إلى معالجة قضايا الشباب، والتفاعل مع أجواء «الربيع العربي»، وما خلفه من تداعيات.
ومع التطور التكنولوجي الهائل، يمكن توظيف صوت الذكاء الاصطناعي في صناعة بدائل فنية راقية وهادفة، بعد أن اقترب من أن يصبح واقعاً في صناعة الموسيقى، ورقماً صعباً على الساحة الفنية، يجب النظر إليه باهتمام، قبل تحريمه أو تجريمه.
ومن الواقعية عدم الاكتفاء فقط بتحريم الغناء، بل من الحكمة، مع موازاة العمل بضوابط الشرع في ذلك، البحث عن بدائل راقية، ونافعة، وهادفة، وتوظيف الفن لخدمة الإسلام، والاستعانة بتقنيات الذكاء الاصطناعي في إيجاد البدائل الفنية المناسبة لمجتمعاتنا، والمتماهية مع ثقافتنا.
بدلاً من البكاء والعويل والصراخ حينما نسمع أبناءنا وبناتنا يرددون أغاني كورية وأجنبية مبتذلة، دون وعي أو إدراك، يجب أن نصرخ نحن كذلك: أوجدوا البديل لهم.