تعدُّ المؤسسات التعليمية هي الوعاء الآمن لاستيعاب الطلاب ومراعاة احتياجاتهم السِّنيّة والنفسيّة والتعليمية، وتأهيلهم تأهيلًا تربويًّا وثقافيًّا، والمناهجُ الدراسية لها القدرة على تخريج طلاب قادرين على التفكير المنطقي السليم، ولديهم الاستعداد لخوض غمار الحياة العملية بما فيها من مستجدات قائمة على مهارة التعامل مع التقنيات العصرية. وهذه التطورات تلقي بالتبعية –من ثَمَّ- على واضعي هذه المناهج؛ من حيث حتمية تضمينها مهارات التفكير النقدي والإبداعي اللذين باتا مطلبًا مهمًّا من مطالب التعليم والتعلُّم المعاصريْن.
والتفكير –عمومًا- من نعم الله –تعالى- على الإنسان، امتاز به دون سائر المخلوقات؛ ليعمرَ الأرض التي استخلفها الله عليها، وليشيد الحضارات، وليعبد الله كما أمره، وهو –أي التفكير- مهارة أساسية في التعليم؛ للتدريب والتطبيق، وتنمية مهارات الطلاب، وإكسابهم مهارات جديدة، وتزويدهم بالمعارف والأساليب المختلفة لمواجهة المصاعب، والقدرة على اتخاذ القرارات، وحل المشكلات، وهذا ما يزيد ثقتهم بأنفسهم؛ إذ يحسّن مستوى معارفهم، وينمّي خبراتهم.
التفكيرُ الناقدُ
وأما التفكير الناقد؛ فهو ذلك النوع من التفكير العميق، الذي يعتمد على المنطق والاستدلال والدقة، والدليل والتمحيص، بصورة موضوعية سليمة توصّل إلى نتائج وأحكام صحيحة لا يتطرق إليها شك ولا يدور حولها جدل، وهذا ما يقود الطالب إلى التفكير الإبداعي، والفرز والتحليل فيما يصادفه من مشكلات؛ ومن مبادئه: إدراك المفاهيم، ومعرفة المبادئ والنظريات، والفهم المفضي إلى حصر الأفكار والوعي بها، ثم القدرة على تحليلها وترتيبها بطريقة متسلسلة، ووضع الخطط المناسبة لطرق الحل.
التفكيرُ الإبداعيُّ
وإذا كان التفكير الناقد يعتمد على التحليل بغرض التوصّل إلى قرار؛ فإن التفكير الإبداعي يعتمد على خلق الأفكار بغرض إيجاد حلول للمشكلات، ويعرِّفه البعض بأنه «التفكير خارج الصندوق»، ومن يمثّل هذا اللون من التفكير لديهم القدرة على مواجهة التحديات، وحل المعضلات بطرق غير تقليدية، ومن مهاراتهم أيضًا: فهم واستيعاب جميع جزئيات المشكلة، والنظر في جوانب وفرضيات لم تُطرح من قبل، والقدرة على وضع خطط عمل واضحة ومفصّلة، بل غاية في الدقة، فضلًا عن مهارتهم في الاستماع الجيد، والحوار البنّاء، وطرح الأسئلة الراجحة التي تقود إلى حل المشكلات المطروحة.
حتميةٌ تعليميةٌ
في السنوات الأخيرة، وفي أعقاب ثورة الاتصالات الحديثة ومتطلبات التعلُّم الرقمي، دعا مطورو المناهج والتربويون إلى الاهتمام بمهارات التفكير الناقد والإبداعي، وضرورة وضعهما ضمن مناهج المراحل التعليمية المختلفة، وخلق أنشطة تساعد على التعلُّم الذاتي وتحفيز الطلاب على البحث عن حلول لمشكلات البيئة المحيطة بهم، أو مشكلات يتم طرحها عليهم. وفي المقابل إدخال المعلمين في هذه المنظومة بتدريبهم على توجيه الطلاب، ومساعدتهم في إتقان هذه المهارات الراقية من التفكير.
ومن المقترحات في هذا الجانب: تعليم مهارات التفكير كمادة مستقلة ومحتوى تعليمي خاص؛ باعتبار أنها باتت لا تقلّ أهمية عن باقي المواد، أو تعليمها ضمن مادة دراسية أخرى، بالمشاركة، على أن تنظّم لها حلقات عملية وحصص تطبيقية تفي بالغرض المنشود، أو إنزالها منزل التطبيق بين مواد المنهاج الدراسي كافة، والهدف: نشدان الوعي وبناء المعارف عند الطالب في نواحي تعليمه مجتمعة؛ وهذا ما يعطي التفكير النقدي والإبداعي حقهما الذي اعترفت به جلّ المناهج الدراسية حول العالم.
معوّقات
على المستوى الإقليمي، أي في نطاق عالمنا العربي، لا زالت هناك معوّقات ليست يسيرة أمام عمليات التفكير بشقيه، جانبٌ منها يختص بثقافتنا ونمط تفكيرنا المتوارث، والجانب الآخر يختصُّ بحال الطلاب؛ من ثم هناك صعوبات في التطبيق أمام المعلم تتمثل في: غياب البرامج التعليمية المستهدفة وتطبيقاتها، وعدم وجود أدلة قياسية ترشده لفحوى مهارات التفكير، إضافة إلى غياب الدافع لدى الطلاب أنفسهم نحو الالتزام بتلك البرامج، أو افتقادهم للروح الناقدة أو المبدعة من الأساس. أو كما لخّصها البعض في: المعوقات المتعلقة بالمنهج، أو بالبيئة المدرسية، أو بالمعلم، أو بالتلاميذ وأسرهم.
طرقُ التنميةِ ووسائلُ النجاح
يتوقف نجاح طرق التفكير بشقيه، النقدي والإبداعي، على الطرق التدريسية المستخدمة والتي من المفترض أن تستثير شغف الطلاب، ومنها: الأنشطة التي تستخدم الأسئلة مفتوحة النهاية، أو تستهدف تنشيط الوظائف العقلية وتوليد الأفكار. وهناك طرقٌ مجرّبة وذات فائدة لا تُنكر في هذا الجانب؛ منها العصف الذهني، والاكتشاف الموجه، وخرائط المفاهيم، وغيرها. كما من الضروري التوظيف الكامل لمهارات الطلاب المبدعين، بما يسمح لهم باستثمار كامل مواهبهم في: التركيز والتذكر، وتنظيم المعلومات، والتحليل والتوليد والتكامل، ثم التقويم. ويوصي البعض في ذلك بــ: إعادة بناء المناهج الدراسية بمحتوى مختلف وطرق تدريس مغايرة، وعقد دورات لمشرفي ومعلّمي حلقات ودروس التفكير والإبداع.
دورُ المعلّمِ
وعلى ذكر دور المعلم؛ فمما لا شك فيه أن للمعلم في تعليم أو التدريب على التفكير دورًا مهمًّا وتحفيزيًّا، فهو يمثل أحد جناحي عملية التفكير، وركنًا أساسيًّا من أركانها، بل قلْ هو حجر الزاوية في العملية برمتها، فالمعلم ليس كتابًا يصدّر المعلومة للطالب وفقط، بل مسئول عن رفع مستوى تفكيره وإبداعه في شتى المراحل، وتعليماته ذات جدوى في الموالاة والتقييم، وهو من يختار الوسائل والأدوات، ويراقب عن قُرب وعن بُعد، ويشجع، ويحفّز، ويطرح البدائل. من أجل ذلك يلزم إعداد هذا المعلم إعدادًا يتناسب مع أهمية هذه المهمة؛ لضمان تأهيل طالب سليم الفكر، صحيح الرأي، قادر على الإبداع.
طالبٌ مبدعٌ= مجتمعًا مُتحضّرًا
أضحى من الحتمي وضع تعليم التفكير النقدي والإبداعي في مكان يليق بأهميتهما ضمن مناهجنا الدراسية، فالطالب المتدربُ عليهما المتمرسُ في تعاطيهما قادرٌ على أن يكون مستقلًّا في تفكيره، متحررًا من اتّباع الآخرين على غير هدًى، ذو عيون مفتوحة وحواس مرهفة ومنطق لا تستدرجه عاطفة ولا يغلبه هوى، ذو طلاقة ومرونة، وأصالة وتجديد، يمكنه تحقيق منجزات غير مسبوقة. وهذا ما جعل هذه المهارة تأتي ضمن أهداف التربية المعاصرة، وهي مهارة قابلة للتعلم وبدونها لا يستطيع الفرد، طالبًا كان أم معلمًا، الاستنتاج أو التغيير، أو التنبؤ، أو التمييز بين الآراء والحقائق، أو حتى مهارة اكتشاف الأخطاء.