كان هم الاستعمار الأكبر أن يخلق في كل بلد دخل فيه جيلًا جديدًا يهضم الحضارة الوافدة، ويتقبل الوجود الدخيل، ويبرأ من قديمه الأصيل، الذي لم يكن ينظر إلا به، ولا يفكر إلا على أساسه، وقد كان محور هذا القديم الأصيل هو الإسلام.
كان الاستعمار يريد أن يصنع من أبناء الشرق المسلم جيلًا طيعًا، يلين في يديه لين العجينة في يد الخباز، جيلًا ينتهج نهجه، ويطيع أمره، وينقاد له مختارًا، ويقول ما قاله أحد وزراء مصر يومًا عن العلاقة بين مصر وبريطانيا: إنه عقد زواج كاثوليكي لا طلاق فيه!
كان الاستعمار يعمل على خلق جيل شرقي الوجه والدم، غربي الذوق والتفكير، يحمل في شهادة ميلاده أو جواز سفره، اسمًا عربيًا إسلاميًا، ويحمل في رأسه عقلًا أوربيًا أو أمريكيًا خالصًا! وكان يريد أن يأتي اليوم الذي لا يظهر فيه على المسرح بنفسه أو بممثليه المباشرين، وأن يدع دوره لوجوه «وطنيه» أو «قومية» تؤدي نفس مهمته، وتسير في نفس طريقه، طريق الهدم بغير فأس، والقتل بغير إطلاق الرصاص! وهذا كان – في الحقيقة – أخطر ما صنع الاستعمار في ديارنا، وما خلف من آثار في أوطاننا.
كان الاستعمار يعمل على أن يقوم بدوره – في التخريب لكيان الأمة المعنوي، ومقوماتها الروحية والخلقية والفكرية – عرب بل مسلمون بالذات، فإن الشجرة – كما قال أحد المبشرين – لا يقطعها إلا أحد أبنائها! ونجح الاستعمار، وتحقق له ما أراد.
تحقق بمن اصطنعهم لنفسه، وصنعهم على عينه، بهؤلاء العبيد من حملة الأقلام، وموجهي الفكر الخاص والرأي العام.
وعرفت ديار الإسلام هذا الصنف «الهجين» من أبنائها الذين وصفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أربعة عشر قرنًا من الزمان بأنهم «دعاة على أبواب جهنم، من أجابهم إليها قذفوه فيها» فلما قيل له: يا رسول الله، صفهم لنا قال: «هم من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا».
وهذه هي الكارثة حقًا، كارثة الذين يريدون أن يخلعوا الأمة من دينها، وهم – مع هذا – ليسوا بإنجليز ولا فرنسيين، ولا روس ولا أمريكان، وإنما هم «من جلدتنا ويتكلمون بألسنتنا»!.
هؤلاء الوطنيون القوميون المتغربون من بني جلدتنا هم – في الواقع – أخطر من سادتهم وأساتذتهم وصانعيهم من المستعمرين المكشوفين.
إن الاستعمار على ما له من قدرة وطاقات جبارة، بمن يستخدمه من بني قومه من المبشرين والمستشرقين، ومن على شاكلتهم، لهم أهون خطرًا من هؤلاء العبيد، الذين يتزيون بزي «الأحرار» الثائرين، هؤلاء الأجانب – عن قومهم – الذين يبدون في صورة الوطنيين الغيوريين.
إن ما يصدر عن الاستعمار عن طريق مبشريه ومستشرقيه يظل قليل الخطر، ضعيف الأثر، ما لم يتنبّه هؤلاء العبيد، ويجعلوه – كذبًا – بضاعة وطنية هم أصحابها وصانعوها، وما هم إلا «حمالون» لهذه البضاعة الأجنبية.
إن شعوبنا تنفر بطبيعتها من كل ما يصدر عن عدو دينها ووطنها متى عرفت ذلك وأدركته؛ لأنها تعلمت من دينها، وتاريخها وتجاربها أنه لا يضمر لها خيرًا، ولا يريد لها قوة ولارفعة {مَّا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلاَ الْمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} (البقرة: 105).
ولكن شعوبنا تنخدع بالفكر الدخيل الصادر عن عدوها، إذا جاءها على يد أبناءها الذين أحسنت بهن الظن، إنها تتقبل هذا الفكر المستورد إذا خلع قبعته وزيه الغربي، ولبس الزي الشرقي، ونطق باللسان العربي.
وهذا هو كل ما كان يريده الاستعمار، وما جاهد من أجله، منذ أن احتل أرض الإسلام: أن يرحل هو، ليخلف وراءه من يحمل فكرته، ويتبنى تقاليده وحضارته من أبناء البلاد أنفسهم. ولا ريب أنه الآن سعيد قرير العين بنتيجة ما صنع، وحصاد ما زرع، في السنين الطوال، سعيد بتلاميذه الذين «ترجمهم» ترجمة غربية خالصة كاملة، فأصبحوا نسخًا أجنبية مغلفة بغلاف شرقي عربي.
إن الاستعمار بنوعيه: القديم والجديد، وبجيشيه: المبشرين والمستشرقين، وبشقيه: الرأسمالي والاشتراكي – لم يعد في حاجة إلى أن يترجم كتبه إلى شرقنا الإسلامي، بعد أن «ترجم هذه الطائفة» من أهله، هذه الطائفة «العصرية» «المتحررة» «التقدمية»!.
أجل، لقد نام الاستعمار ملء جفنيه، بعد أن «ترجم هؤلاء»، وتركهم يقودون قافلة التعليم والثقافة والأدب والفن في الطريق الذي رسمه، وإلى الهدف الذي أراده. وما له لا ينام مطمئن الجنب، سعيد الأحلام، وقد غدا هؤلاء «الكبار» من الكتاب والأدباء «والدكاترة» والموجهين، لسانه الناطق بما يريد، وقلمه المصور لما يحب، بل يده المنفذة لما يود ويشتهي؟!
ومما زاد من خطر هؤلاء العبيد أن الاستعمار قد استطاع بإمكاناته المادية والأدبية، وبوسائله الخفية والعلنية، وبأجهزته الدعائية الجبارة، أن يجعل لهؤلاء العبيد ذكرًا مرفوعًا، وصوتًا مسموعًا، وأن يفتح لهم المغاليق، ويمهد لهم كل طريق، ويزيل من أمامهم كل عقبة، حتى يظهروا ويسودوا ويقبضوا على مقاليد الأمور في ديار الإسلام، وخصوصًا مقاليد الثقافة والفكر والتوجيه والتأثير في كل مجال من مجالات العلوم والآداب والفنون.
استطاع الاستعمار المتمكن المقتدر أن يصطنع لهؤلاء دعاية ضخمة أحاطتهم بهالة من الإكبار والإجلال والتقديس، ونفخت فيهم نفخة ضخمتهم وفخمتهم في أعين الناظرين، فجعلت من القط جملًا، ومن الحبة قبة – كما يقول المثل العامي – وأضفت عليهم من نعوت التحرر والتجدد، ومن ألقاب الريادة والقيادة ما خدع بهم الكثيرين، الذين أعجبوا بالدمى العجيبة المتحركة المتكلمة، ولم يلتفتوا إلى الأصابع المستورة أو البطاريات المخبوءة، التي تحركها!
أجل استطاعت الدعاية الدائبة المدروسة المخططة أن تجد سبيلها إلى قلوب الكثيرين من الطيبين المخلصين في شعوبنا الطيبة، فصدقوا ما شاع، ورددوا ما قيل، عن عبقرية هؤلاء المجددين المتحررين! صدقوا أن تحت القبة شيخًا تشد الرحال إليه، وتلتمس البركات بين يديه، بركات العلم والأدب والفن والثقافة العالية!
والحق أن هؤلاء إذا سبرت أغوارهم، وخبرت ما عندهم، لم تجد لهم أصالة ولا ابتكار، ولا شيئًا ذا قيمة حقيقية، يستحق كل هذه الضجة، وكل هذا التهويل، وكل هذا التعظيم والتقديس، وإنما هي الأوهام والأهواء تجعل من الحجارة الصماء آلهة تعبد من دون الله، وتقدم لها النذور والقرابين … وعلى هذه الطريقة نفسها صنعت «الأصنام الفكرية» في بلادنا، وقام على سدنتها كهان مأجورين مزورون.
ويوم تسترد بلادنا شخصيتها، وتتحرر من بقايا الاستعمار الفكري والاجتماعي، ويكتب تاريخ الفكر فيها من جديد، سيهوى إلى القاع رجال رفعوا إلى القمة، وسترى رجالًا كبارًا – وكبارًا جدًا – قد أصبحوا صغارًا صغارًا، سيستحيل أولئك العمالقة – فيما زعموا – إلى أقزام. ستراهم الأمة على حقيقتهم، أدوات جيدة في يد التبشير والاستشراق، أي في يد الاستعمار، سترى الذين زعموا – أو يزعم لهم – أنهم مجددون! لم يكونوا إلا مقلدين للغرب المستعمر، حذو النعل بالنعل، وأن جديدهم لم يكن إلا قديم أوربا … وسترى الأمة الذين زعموا – أو زعم لهم – أنهم أحرار الفكر لم يكونوا إلا عبيدًا أقنانًا للحضارة الغربية، يركعون عند أقدامهم، ويسجدون في خشوع لكل ما يصدر عنها من قيم وأفكار، ومفاهيم وتقاليد، بدون تمحيص ولا تمييز «خيرها وشرها، وحلوها ومرها، ما يحب منها وما يكره، وما يحمد وما يعاب» وأن حرية الفكر التي زعموها لم تكن إلا التمرد على دينهم وتراثهم، والرفض والاحتقار لكل ما استقلت به حضارتهم، أو اختصت به أمتهم.
____________________________
المصدر: كتاب «أعداء الحل الإسلامي».