اتخذت دولة الاحتلال الصهيوني عدة إجراءات على مدى العقود الماضية التي أعقبت ضم شرقي القدس إلى كيانها عام 1967م؛ فشرعت بإصدار سلسلة من القوانين التي طالت كل جوانب المدينة المقدسة بكل معالمها، لتغيير الملامح الإسلامية التي تشكل التاريخ الحقيقي للمدينة؛ وسعيًا لتهويدها، ومنذ ذلك التاريخ يتعرض المسجد الأقصى إلى الاعتداءات اليومية تحت حماية قوات الاحتلال، وقد اتخذت تلك الاعتداءات تطورًا تصاعديًا بصورة خطيرة.
حريق «الأقصى» ورد الفعل الإسلامي
اتسمت الانتهاكات ضد المسجد الأقصى في تلك الفترة على ردود الفعل العربية والإسلامية وقوة المقاومة الشعبية الفلسطينية للمشروع الصهيوني نحو السيطرة الأمنية على المسجد الأقصى، فقام الجنرال موردخاي وجنوده باقتحام المسجد الأقصى، في 6 يوليو 1967م، ورفع العلم الصهيوني على قبة الصخرة، وحرقوا المصاحف، ومنعوا المصلين من الصلاة فيه، وصادروا مفاتيحه، وأغلقوه أسبوعًا ومنعوا الأذان والصلاة فيه، ثم قام الحاخام شلومو غورن وأتباعه، في 15 يونيو 1967م، بإقامة صلاة دينية في ساحة الحرم.
وفي 16 يونيو 1969م، استولت القوات الصهيونية على الزاوية الفخرية التي تقع في الجهة الجنوبية الغربية من ساحة المسجد، ثم استولت على المدرسة التنكزية الأثرية التي تقع عند باب السلسلة، واستخدمتها موقعًا عسكريًا.
وقد جاء بداية التصعيد الصهيوني الخطير عندما قام الصهيوني دنيس مايكل روهان، في 21 أغسطس 1969م، بإشعال النار في المصلى القبلي من المسجد الأقصى تحت حماية قوات الاحتلال التي قامت بقطع المياه عن المنطقة المحيطة حتى تلتهم النيران أكبر قدر منه، التي كانت من نتائجه أن حرقت النيران الجناح الشرقي للمصلى الواقع في الجهة الجنوبية من المسجد، وأتلفت واجهات المسجد الأقصى وسقفه وسجاده وزخارفه النادرة وكل محتوياته من المصاحف والأثاث، وأتلفت النيران ما يقرب من ربع مساحة المسجد، وأحدثت أضرارًا بالغة ببنائه؛ وسقط سقفه والقوس الحامل للقبة وتضررت الأعمدة الرئيسة، كما تضررت أجزاء كبيرة من القبة الداخلية المزخرفة والمحراب والجدران الجنوبية، واحترق منبر صلاح الدين الأيوبي الذي يعتبر قطعة خشبية نادرة، مما تطلب سنوات لترميمه وإعادة زخارفه كما كانت.
وأحدث الحريق ثورة غاضبة في أرجاء العالم الإسلامي، وعمت المظاهرات القدس، وكان من تداعياته عقد أول مؤتمر قمة إسلامي في الرباط بالمغرب، وقرروا إنشاء منظمة المؤتمر الإسلامي التي ضمت في حينها ثلاثين دولة عربية وإسلامية، وأنشأت المنظمة صندوق القدس عام 1976م، وأصدر مجلس الأمن الدولي القرار رقم (271) لسنة 1969م الذي أدان فيه «إسرائيل» ودعاها إلى إلغاء جميع التدابير التي من شأنها تغيير وضع القدس.
تطور الانتهاكات الصهيونية بالسنوات الأخيرة
تتميز تلك المرحلة بتطور خطير في الانتهاكات بحق المسجد الأقصى والمدافعين عنه، تمثلت في الاقتحام المنظم لأعداد ضخمة من اليهود بمسيرات تبلغ آلاف الصهاينة في أوقات محددة، مدعومة بحماية أمنية مكثفة من قوات الاحتلال التي تستخدم كل وسائل القمع والإرهاب.
بدأت شرطة الاحتلال، في رمضان لعام 2014م، بفرض قانون «إبعاد جماعي صباحي للنساء» عن المسجد الأقصى، وذلك خلال الساعات التي يتم فيها تنفيذ الاقتحامات حيث منعت 500 طالبة من الدخول إلى المسجد، وباتت سياسة تأخذ اتجاهًا تصاعديًا؛ لمعاقبة المرابطين رجالاً ونساء، وإصدار أحكام بالسجن وفرض غرامات باهظة، لتصديهم لاقتحامات «الأقصى»، وتزداد قرارات سلطات الاحتلال بالإبعاد والاعتقال في فترة الأعياد اليهودية التي أصبحت موسمًا لإغلاق معظم أبواب المسجد، أو في أعقاب حدوث مواجهات تسميها سلطات الاحتلال «إخلالاً بالأمن العام»؛ حيث تتراوح فترة الإبعاد من أسبوعين وحتى عدة أشهر.
وقامت سلطات الاحتلال بإبعاد 300 فلسطيني خلال عام 2014م عن المسجد الأقصى وملاحقة موظفي المسجد من الخطباء والحراس، بالإضافة إلى اعتقال طلاب العلم بمن في ذلك النساء والأطفال والشيوخ، وفرض الغرامات المالية عليهم، واتبعت سياسة إبعاد متدرجة، فبدأت بإبعاد المرابطات جماعيًا، ولما فشلت في ذلك بدأت بالإبعاد الفردي عن الأقصى أولًا؛ ثم عن محيطه؛ ثم عن البلدة القديمة ذاتها.
وشهد عام 2019م تصعيدًا في عدد المستوطنين الذين اقتحموا المسجد الأقصى بحماية من قوات الاحتلال، إذ بلغ عددهم 29610 مستوطنين؛ وفي المقابل ارتفعت أعداد المبعدين عن المسجد الأقصى، فقد أصدرت سلطات الاحتلال 355 قرار إبعاد، و44 قرار إبعاد عن البلدة القديمة، و10 قرارات إبعاد عن مدينة القدس، إضافة إلى قرارات تقضي بمنع السفر، ومنع دخول الضفة الغربية، وتراوحت قرارات الإبعاد بين 3 أيام و6 أشهر.
وخلال عام 2020م، تم إصدار 375 قرار إبعاد، موزعة على النحو التالي: 315 عن المسجد الأقصى، 15 عن مدينة القدس، 33 عن البلدة القديمة، 4 عن الضفة الغربية و8 منع سفر، ومن بينهم 15 قاصراً، و66 امرأة.
وفي الأعوام الثلاثة الأخيرة، تم إصدار أكثر من ألف قرار إبعاد عن المسجد الأقصى والقدس القديمة، والمنع من دخول مدن الضفة الغربية، وتراوحت فترات الإبعاد من يومين إلى 6 أشهر، وفي معظم الحالات تسلم لعدة أيام ثم تُجدد لعدة أشهر.
وقد شملت قرارات الإبعاد المتكررة عن المسجد الأقصى لفترات متفاوتة بعض الشخصيات الوطنية والدينية، ومنهم: عدنان غيث، محافظ القدس، والشيخ عبدالعظيم سلهب، رئيس مجلس الأوقاف والشؤون الإسلامية، والشيخ ناجح بكيرات، نائب مدير عام دائرة الأوقاف في القدس، ورئيس الهيئة الإسلامية العليا في القدس الشيخ عكرمة صبري، خطيب المسجد الأقصى، والشيخ رائد صلاح، رئيس جمعية الأقصى لرعاية المقدسات الإسلامية، وأول من كشف النقاب عن حفريات المسجد الأقصى، والعديد من خطباء المسجد الأقصى وحراسه والمرابطين والمرابطات فيه.
وتهدف سلطات الاحتلال من هذه الإجراءات المنظمة إلى إفراغ «الأقصى» وتهيئة الأجواء للمتطرفين باقتحامه على فترتين صباحية ومسائية، في محاولة لفرض التقسيم الزماني والمكاني فيه، وفقًا لما صرح به موشيه كتساف، رئيس الدولة العبرية، بقوله: إن دخول المسلمين واليهود إلى «الأقصى» لا بد أن يتم في نهاية الأمر، وفقًا لنظام متفق عليه بين الأطراف المعنية، يسمح لكافة المسلمين واليهود بأداء شعائرهم الدينية في هذا المكان المقدس على غرار الإجراءات المتبعة في المسجد الإبراهيمي بمدينة الخليل.
إن المتابع للسياسة الصهيونية تجاه المسجد الأقصى يدرك تمامًا حقيقة ما ترمي إليه سلطات الاحتلال الصهيوني من الاستهداف الدائم للمسجد وإحكام السيطرة عليه، وتجريده من طابعه الإسلامي؛ ووضعه بصورة دائمة تحت التهديد والاقتحام، وتثبيط عزيمة المدافعين عنه بالتضييق عليهم بشتى الوسائل حتى تصبح حياتهم اليومية في القدس جحيمًا يحملهم إلى الفرار منها، لكن الثبات الأسطوري لأبناء القدس خاصة والفلسطينيين عامة يقف حجرة عثرة في طريق تنفيذ المخطط الصهيوني نحو «الأقصى».
_________________________
1- الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني: كتاب القدس الإحصائي السنوي 2022م، رقم (24)، رام الله، يونيو 2022.
2- د. كمال محمد الأسطل: مستقبل مدينة القدس في ظل السياسات والإجراءات «الإسرائيلية» الهادفة لتغيير الواقع الجغرافي والديموغرافي في المدينة بعد عام 1967، جامعة الأزهر، غزة، دون تاريخ.
3- وزارة شؤون المفاوضات: خمسون عامًا من الأسر والتهويد «الإسرائيلي» في القدس العربية المحتلة، رام الله، دون تاريخ.
4- مركز معلومات وادي حلوة، سلوان:
– سياسة الإبعاد عن المسجد الأقصى. https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=9562
– أبرز الاعتداءات «الإسرائيلية» على المسجد الأقصى 2019.
https://info.wafa.ps/ar_page.aspx?id=xMmM3za27500902935axMmM3z
5- وزارة الأوقاف والشؤون والمقدسات الإسلامية: بيان إدارة أوقاف وشؤون المسجد الأقصى المبارك، القدس الشريف، عمَّان، 9 أغسطس 2017م.