نشرت، في مقال سابق، رسالة أخ كريم، يروي لنا قصة حياته الزوجية، ووعدتك، أيها القارئ الكريم، أن أتناول ما يمكن استخلاصه من دروس وعبر من خلال نموذج ناجح لزوجين استطاعا، بتوفيق الله تعالى، أن يتغلبا على ما يواجه أي زوجين من مشكلات.
سأستعرض لبعض الفقرات، ثم أهم القيم التي يمكن استخلاصها منها:
– «وجدتني أعقد مقارنة بين قيمة وأهمية مسؤوليتي الأسرية (زوجة وطفل) ومسؤوليتي المهنية، ومدى معلوماتي عن كل مسؤولية! النتيجة صادمة فشل سببه الجهل، هرعت إلى زوجتي وصارحتها بما وصلت إليه، هي جزاها الله خيراً اقتنعت واعتذرنا لأنفسنا، وقررنا التعلم، تعاهدنا على أن نطبق ما نتعلمه بدءاً من الحقوق والواجبات الشرعية -ركز كل منا على ما عليه من واجبات وحقوق لزوجه- حتى وسائل التواصل الزوجي بكل معانيه، وإدارة الخلافات الزوجية وتربية الأولاد وكل ما يتعلق بنجاحنا كأزواج».
– «مرت علاقتنا بفترات صعبة، ولكننا صبرنا على بعض، وكل منا بذل لننعم ببعض ويقيننا قول الحق سبحانه: (إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً) (الكهف: 30)».
إن المودة والرحمة توفيق من الله لزوجين أخلصا النية لله، وتعاهدا على تطبيق برنامج من المعارف والمهارات والقدرات اللازمة لعلاقاتهما الزوجية، إن المودة والرحمة ليست هبة من الله، ولكن توفيق الله يتطلب بذلاً وصبراً ومثابرة لتحصيل المعارف وتدريب للمهارات وصقل للقدرات.
– «حبيبتي ورفيقة دربي في بداية السبعينيات من عمرها المبارك وأنا في منتصفها»، «أتعجب من بعض الأزواج عندما يتحدثون عن الملل من حياتهم الزوجية! وكأنه شيء طبيعي، وينسون أن الزواج تشريع العليم الحكيم، وأن الأصل في الزواج الديمومة، إن الملل الزوجي نتيجة طبيعية لعدم التجديد وفقدان الأمل في غد مشرق جميل».
إن كل يوم من الحياة الزوجية هو قيمة مضافة لرصيد التفاهم والتوافق بين الزوجين، ولا ينمي الزمن علاقاتهما معاً فقط، بل وينشئ علاقات جديدة، فمع الزمن يصبح الزوجان والدَيْن، ويتطلب ذلك علاقة جديدة بمتطلبات تربية الأولاد ذات مذاق خاص ومشتركات حية، ثم يصبحان جدَّيْن! إن من المهم هو ليس فقط تطوير العلاقات الزوجية من حيث الموضوع والتناول، بل والحرص والإبداع في علاقات جديدة تجمع الزوجين.
– «كنا ندخر ونستثمر في بعض، بمعنى أن كلاً منا أيقن واقتنع أن زوجه يعلم خطوطه الحمراء فلن يقترب منها، وأن عليه أن يقبله ويحمد الله على ما به من صفات يحبها ويصبر على ما به من خصال لا تتوافق معه».
– «كنا نتصارح دون خجل عما لا يرضينا في أنفسنا، ونفكر معاً كيف نحسن ما لا يرضينا من أنفسنا، كان كل منا يحافظ على زوجه للحظات الضعف والاحتياج خاصة في شيبتنا».
إن المودة والرحمة ليست فقط عاطفة جياشة وعلاقة حميمية فياضة، رغم قيمة وأهمية ذلك، ولكنها مجموعة من العلاقات المتلازمة، ولعل من أهم دعائمها التقدير والاحترام والقبول، مما ينمي الثقة بين الزوجين، إن الثقة بين الزوجين تساعد كل زوج أن يكون صريحاً مع زوجه، فلا يخجل من الانفتاح النفسي مع زوجه، فهو ستره، فيحدثه عما يجد في نفسه من نقص أو خلل ويطلب منه العون، كما أنه من المهم أن يتفهم كل زوج خصوصية زوجه، وما الخطوط الحمراء التي يجب عليه ألا يتعداها.
إن أهم دور يمكن أن يمارسه الزوج مع زوجه هو أن يساعده على مرضاة الله تعالى بدءاً من خلال:
1- أن يكون نموذجاً حياً لحق العبودية لله تعالى.
2- الدعوة بالتي هي أحسن.
3- الأداء المشترك للعبادات.
– «فيومنا مزدحم بين جلسة ذكر نتدارس فيها كتاب الله، وقبس من نِعَم الله علينا».
– «قيمنا: كل منا عون لزوجه لمرضاة الله تعالى، والاحترام والتقدير، وحسن الظن؛ فأي تصرف مهما كان مؤلماً أو مكلفاً، هو بقصد طيب ولا يتعمده أي منا، ونتعاون معاً في الأعباء المنزلية».
إن من المهم بمكان أن يجتمع الزوجان على أنشطة مشتركة، وإن من أهم وأقدس الأنشطة حلقة الذكر العائلية لما لها من عوائد جمة، قال الله تعالى: (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ) (الكهف: 28)، وعن أبي هريرة رضي الله عنه، وعن أبي سعيد رضي الله عنهما قالا: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يقعد قوم يذكرون الله عز وجل إلا حفتهم الملائكة وغشيتهم الرحمة ونزلت عليهم السكينة؛ وذكرهم الله فيمن عنده» (رواه مسلم).
وتصفية النفس مما قد يعلق بها من تصرفات غير مقبولة من الزوج، وتهيئة القلب للصفح والعفو، من أهم معينات التربية، فهي ترسخ في الأولاد قيمة العلاقة مع الله، وتعطي نموذجاً عملياً لقيمة مدارسة وفهم الدين.
فالحياة الزوجية تعاون قبل أن تكون واجبات وحقوقاً، نعم الرجل عليه الكد من أجل توفير المال الحلال لمتطلبات حياة كريمة لأسرته، والزوجة عليها العناية بالبيت، لكن الحياة الزوجية قائمة على التعاون والتكافل في مسؤوليات البيت، فقد سئلت عائشة رضي اللهُ عنها: ما كانَ يصنعُ النَّبيُّ في أهلِهِ؟ فقالت: «كان يكونُ في مِهْنَةِ أهلِهِ، فإذا حضرت الصَّلاةُ خرجَ» (أخرجه الألباني).
وذلك دون الإخلال بالضوابط الشرعية لاستقلال الذمة المالية للزوجة، وأنه ليس للزوج حق في مال زوجته إلا بما ارتضت عن طيب نفس؛ (وَآتُواْ النَّسَاء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً) (النساء: 4)، وكذلك دون الإخلال بمسؤولياتها كزوجة وكأم، فإن وجدت الزوجة أن زوجها يبذل، ولكن دخله أقل من متطلبات البيت فلا حرج على الزوج ومن منطلق تكافل وتعاون زوجته معه، فإن كان للزوجة دخل من مال خاص أو عمل أن تشارك بما تطيب نفسها وتتحمل بعض الأعباء المالية للبيت.
العلاقة مع الزوج ليست حساباً بنكياً يجب بيان الرصيد دائناً أو مديناً، ولكنها علاقة استثمار طويل الأجل، الأصل فيها التعبد لله، فإذا ما تعثر الزوج وجد أثر ذلك في توفيق الله لزوجه أن يكون عونه وسنده، وتتضمن رحلة الحياة الزوجية مراحل وأطواراً متميزة لكل منها مذاقها الخاص، ويجب على كلا الزوجين أن يتمتعا بكل مرحلة، كما تتباين مسؤوليات كل زوج؛ فكل يعطي بقدر ما يوفقه الله دون منٍّ أو تحمّل فوق الطاقة.
– «نحيا مرحلة زوجية هي من أجمل وأسعد ما مر بنا من رحلة زواجنا، نعم هذه مشاعرنا، ولكن دعني أستعيد ذكريات مشاعرنا، أجد أن لكل مرحلة زوجية مذاقها الخاص والسعادة الكامنة بها، وقد وفقنا الله للتنعم بها، ولكن دعني أوضح لأبنائنا أننا في الدنيا ولسنا في الجنة، وزوجتي وأنا بشر نصيب ونخطئ».
– «العطاء المعنوي هو الأهم والأكثر تأثيراً، إن تبادل العطاء المعنوي من عواطف جياشة وتقدير وامتنان وتمتع وإمتاع.. هو من الخيرية التي حرصنا على أن نتنافس على من يفوز بها».
الحياة الزوجية معين لا ينضب من المودة والرحمة، يرى البعض أن الزوجين يتمتعان بالمودة في مراحل شبابهما، ثم ينعمان بالرحمة في شيبتهما! لعل رسالة الأخ الكريم تتفق مع رأيي أن المودة الرحمة بين الزوجين يمكن أن تستمران مدى عمر الزوجين ما داما قد تعاهدا على ذلك، وعلى الرغم مما قد يتعرض له البدن من ضعف، فإن رصيد الحب والثقة بينهما يمكنهما من التمتع معاً بالمودة!
أما ما يخص المشكلات الزوجية؛ فنحن بشر، ومن الطبيعي أن تحدث خلافات بين الزوجين، إن من متطلبات المودة والرحمة أن يتوافق الزوجان على كيفية تقليل المشكلات بينهما، وطريقة التعامل معها إذا ما حدثت.
– «هيَّأنا أنفسنا على أن نتقبل أخطاءنا، ولكن حاولنا تجنب ما قد يؤدي إلى أي خلاف بيننا، فكنا نناقش بموضوعية وبالتفصيل ودون أي مواراة مسؤوليتنا، والدور الذي يمكن أن يقوم به كل منا في أدائها».
– «عند حدوث المشكلة يكون همنا كيف نحلها، دون لوم أو تأنيب، واليقين أنها تمت بعذر مقبول دائماً مثل السهو أو عدم التقدير المناسب للحل أو المفاجأة.. ثم كيفية الاستفادة منها؛ بمعنى لماذا حدثت المشكلة؟ وماذا على كل منا أن يفعل حتى لا تتكرر؟ لذا فكانت المشكلات تزيدنا تفاهماً».
– «رغم كل ما اكتسبناه من معارف وخبرات وتفاهمات، فإننا بشر، وقد يوسوس الشيطان لأي منا، فعادة ما ينسحب الآخر ويلجأ إلى الله بالدعاء، فيسكت الطرف الثائر، قد يعتذر أحدنا، المهم لا وقت للعتاب، ونقفز فوق الحدث، وإما أن ينتهي الموضع بذلك وننساه؛ لأنه حدث عارض أو بعد فترة نستعيده للعبرة والاستفادة حتى لا يتكرر».
إن الأسرة المسلمة هي اللبنة الأساسية للمجتمع والأمة المسلمة، ودورها هو تربية جيل رباني قادر على تحمل الأمانة لنتشرف ونكون حقاً خير أمة أخرجت للناس؛ (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ) (آل عمران: 110)، فعلينا بذل كل جهدنا لأن يكون أولادنا خيراً منا، وأن يكونوا قيمة مضافة للأمة، وأن الاستثمار في الأولاد أولى من الاستثمار لهم، والإحساس بالمسؤولية لتوفير محضن تربوي ينعم فيه الأولاد بالأمان النفسي ونموذج عملي قيمي وليس مجرد تلقين.