بعيداً عن كل الضغوط والتحديات الداخلية التي تواجهها المرأة الداعية كإشكالات في الفضاء الخاص بها، بدءاً من الفتور والإحباط الذي قد يعتريها من الحين للآخر، مروراً بمسؤولية البيت وصعوبات التربية وحتى المشكلات الزوجية العادية، إضافة لضغوط العمل المأجور إن كانت امرأة عاملة، أقول بعيداً عن ذلك كله، فإن الإشكالات التي تواجهها وهي تتحدى الصورة النمطية التي تم قولبتها داخلها من أشد وأعقد الإشكالات المستحدثة، إن كان ذلك في الداخل المسلم أو في الخارج غير المسلم.
بين التربص والاتهام
في داخل بلادنا الإسلامية والعربية وضعت المرأة الداعية في إطار المرأة المثالية التي لا يمكن لها أن تخطئ، بل المنتظر منها أن يتحول الفضل للفرض، فهي دائماً موضوعة تحت المجهر، مطلوب منها أن تكون دائماً مبتسمة، متاحة، تُؤْثر الآخرين حتى لو لم يكونوا بحاجة لهذا الإيثار.
وقد يصل الأمر لمحاولة إحراجها لا لشيء إلا لاختبار قدرتها على الصمود والتحمل، البعض يفعل ذلك بسبب نوازع شريرة داخل نفسه، فهو يريد إثبات أن الناس جميعاً سيِّئون حتى يبرر لنفسه السوء، والبعض يفعل ذلك بصورة لا واعية تحت تأثير الصورة التي قدمتها الدراما والسينما للمرأة الداعية التي تدور في سياق الشخصية المنافقة التي تظهر غير ما تبطن!
وفي إطار هذه المقاربة، يوضع أبناء المرأة الداعية تحت المجهر بحيث يبدو الخطأ الصغير منهم مجسماً، ولم لا؟ أليسوا أبناء امرأة تصدت للدعوة فلا بد أن يكون سلوك أولادها برهاناً على صدقها؟!
على أن أسوأ ما في الصورة النمطية هو وصم المرأة الداعية بعدم احترام حدود وخصوصية الآخرين، فلقد نجح تحالف التيار العلماني مع التيار النسوي على اعتبار العظة أو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لوناً من الاعتداء على حرية وخصوصية الآخرين، خاصة فيما يتعلق بالقضايا النسائية كارتداء الحجاب مثلاً.
ونشطت السينما والدراما في تقديم صورة المرأة الداعية التي تقوم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بإحدى طريقتين:
– صورة الفظة الغليظة التي تثير ضحك الجمهور (كوميديا سوداء).
– صورة المرأة ذات الدهاء التي تتقرب من ضحاياها ثم تحاول توجيههم بما يتماشى مع أجندتها الفكرية.
أما عن الخلفية النفسية للمرأة الداعية وفقاً لهذا السيناريو الذي يحاولون تمريره لطبقات الوعي العميقة لدى الجمهور فغالباً ما يتم تصوير هذه المرأة الداعية كامرأة تلقت صدمة كبيرة حولتها من امرأة عادية طبيعية لامرأة متطرفة متعصبة تحاول اقتحام حياة الأخريات، محاولة إعادة تشكيلها وفقاً لأفكارها المتطرفة.
الداعية و«الإسلاموفوبيا»
أما التحديات التي تواجهها المرأة الداعية في الخارج وفي الغرب تحديداً، فهي ركن رئيس من ظاهرة «الإسلاموفوبيا» إن لم تكن في الصدارة المطلقة لها، نظرات التوجس التي قد تصل حد الهلع مع ارتداء الداعية لبعض صور الحجاب تستدعي على الفور للمخيلة الصورة النمطية للمرأة «الداعشية».
وفي حالة المرأة الداعية، فإن ارتدائها للحجاب يجعلها هدفاً للاضطهاد، تقول داعية في إحدى دول أوروبا: «أذكر مرة كنت في مطار إحدى الدول الأوروبية، وكنا أربع محجبات، وقد بلغ الإرهاق بنا مبلغه، ولكننا كنا نرسم الابتسامة على وجوهنا رسماً، نحن فقط الأربع المضطرات لفعل ذلك بينما باقي من في المطار لا يتكلفون شيئاً، ويظهر الإرهاق على وجوه البعض بصورة طبيعية، لكننا كنا مضطرات لذلك؛ لأننا تحت المجهر، نلمح في عيون البعض نظرات الاتهام، صورة نمطية عن المسلمة المحجبة المكفهرة الوجه التي تشع غضباً وكراهية ونحن نريد أن ننفيها».
أثمرت «الإسلاموفوبيا» حالة من حالات العنصرية المنهجية بدرجات متفاوتة الحدة تجاه النساء الداعيات والمسلمات عموماً، لذلك اتجهت المرأة في الغرب للدعوة بطرق غير تقليدية؛ كالانضمام للنقابات والاتحادات الطلابية والمشاركة السياسية، ونحو ذلك من صور الاندماج في المجتمع؛ بهدف تغيير الصورة النمطية المرتبطة بالمرأة المسلمة، وموقف الإسلام عموماً من المرأة، لكنها واجهت صعوبات جمة وسعياً للإقصاء والتهميش بدرجات متفاوتة الحدة.
ففي بريطانيا، مثلاً، يتم تهميش المرأة المحجبة التي تسعى للحركة والاندماج واستغلالها كمجرد واجهة دعائية لتسامح المملكة، وهذا ما حدث مع راقية إسماعيل، المسلمة المحجبة السمراء التي ترأست بلدية تقع ضمن نطاق لندن الكبرى، التي أعربت بشكل واضح عن معاناتها مع «الإسلاموفوبيا» حتى إنهم منعوها من الكلام في أحد مؤتمرات حزب العمال (الأكثر تسامحاً مع الأقليات والمختلفين ثقافياً!)، لدرجة أنها بكت قبل أن تقدم استقالتها للحزب.
طبقة الداعيات
على أننا لا يمكننا أن نتجنب النقد الذاتي الموضوعي لو أردنا حقاً تغيير الصورة النمطية السلبية التي ارتبطت بالمرأة الداعية، فهناك بالفعل في أوساط الداعيات من تمارس الاستعلاء الإيماني الفوقي على من تطلق عليهم العوام، ويشكلن ما يمكن أن نطلق عليه طبقة الداعيات.
وهناك من يغلب على خطابها الشدة والحدة، ولا تراعي اختلاف البيئة والخلفية الثقافية لمن يتوجه لها الخطاب، وهناك كثيرات يستخدمن خطاباً وعظياً تقليدياً، والحاجة ماسة لداعيات أكثر حركية وتفاعلاً على المستوى الرأسي والأفقي يبحثن عن دوائر جديدة ويحسنّ استخدام الأدوات الأكثر عصرية بطريقة معتدلة متوازنة حتى تقطع الطريق على من يحسن التلاعب بمخاوف الناس؛ لذلك فإن المقطع الذي انتشر لامرأة محجبة في مترو لندن وهي تتصدى لمتطرف مسيحي يحاول ترويع عائلة يهودية باعتبار أن ما يقوله هو كلام الرب، بينما هي تواجهه بقولها: إن القرآن يقول: (لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ) (الكافرون: 6) أكثر فاعلية في تغيير الصورة النمطية السلبية عن كثير من المقالات والمحاضرات.
إن انخراط المرأة الداعية في الحياة العامة وهي تحمل دعوتها وتتحرك بها أكبر مغيّر للصورة السلبية النمطية عنها، نحن بحاجة للمرأة الداعية في العمل وفي الحزب وفي النقابة وعلى منصات «السوشيال ميديا» وفي الأكاديميات التربوية، وفي معارض الرسم، وفي وسائل المواصلات، تمارس دعوتها بسلوكها وبتحملها للمسؤولية وبتفهمها بالطبيعة الخاصة لكل مكان تتفاعل فيه.
لا يعني هذا أننا لا نريد من تعظ عظة مباشرة، وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، لكننا نريد ردءاً يصدقها ويدعمها ويؤازرها ويزيح الغبار عن الصورة النمطية السلبية التي قاموا بقولبتها فيها.