لا يزال الإنسان بخير ما دام حارساً لقلبه متحصناً من الفتن يقظاً تجاهها، إذا بدت إليه هرب منها، وفر عنها، وإذا رآها مقبلة عليه من بعيد أغلق على نفسه أبوابها، وأحكم سداد منافذها حتى لا تجد إليه سبيلًا، فمثل هذا في عافية، قد أراح نفسه وطلب لها السلامة، والسلامة لا يعدلها شيء، كما قال ابن مسعود رضي الله عنه.
والخواطر هي رسول كل فتنة وباب كل بليّة، ومبدأ كل فعل بشري، سواء كان خيراً أو شراً، فما من خير فعلته إلا وشرارته خاطر، وما من شر ارتكبته إلا وشرارته خاطر؛ قال ابن القيم رحمه الله: «وأما الخطرات فشأنها أصعب؛ فإنها مبدأ الخير والشر، ومنها تتولَّد الإرادات والهمم والعزائم، فمن راعى خطراته ملك زمام نفسه وقهر هواه، ومن غلبته خطراته فهواه ونفسه له أغلب، ومن استهان بالخطرات قادته قهرًا إلى الهلكات..» (الداء والدواء).
والإنسان لا يستطيع أن يميت الخواطر تماماً أو يقطعها، فإنها تهجم عليه هجوماً؛ لكنه يستطيع بقوة إيمانه ويقظة قلبه وحضور عقله أن يميز بين حقها فيقبله وباطلها فيدفعه.
فالخطر يكمن في استدعاء الخواطر السيئة والتجاوب معها، فحالك كحالك مع الرجل المريض المحمّل بميكروب أو فيروس فإن تركته يمر في طريقه ولم تقترب منه نجوت منه، وإن ناديت عليه واحتضنته كنت عرضة لانتقال الميكروب إليك.
والحال في مواجهة الخواطر الباطلة على شكلين:
الأول: الهزيمة أمامها؛ فالنفس إن كانت ضعيفة وفارغة من الإيمان والعمل الصالح سهل على الخواطر اقتحامها، ثم تتطور بعد ذلك إلى حديث نفس ثم همّ ثم عزم ثم فعل، كما قال بن القيم: «دافع الخطرة، فإن لم تفعل صارت فكرة، فدافع الفكرة، فإن لم تفعل صارت شهوة، فحاربها، فإن لم تفعل صارت عزيمة وهمّة، فإن لم تدافعها صارت فعلًا، فإن لم تتداركها بضدّه صار عادة فيصعب عليك الانتقال عنها».
والثاني: صدها وردها؛ وذلك إن كانت النفس تحت سيطرة القلب المؤمن اليقظ ممتلئة بمحبة الله ومراقبته، فمهما حاول الولوج وجد من يصده ويصرفه، وصدق من قال: «ونفسك إن لم تشغلها بالحق شغلتك بالباطل».
يقول بن القيم: «وقد خلق الله النفس شبيهة بالرحى الدائرة التي لا تسكن، ولا بد لها من شيء تَطحَنه، فإن وُضِع فيها حَبٌّ طحَنته، وإن وُضع فيها تراب أو حصى طحنته، والأفكار والخواطر التي تَجول في النفس هي بمنزلة الحَبِّ الذي يُوضع في الرحى، ولا تبقى تلك الرحى معطلة أبدًا، بل لا بد لها من شيء يوضع فيها، فمِن الناس مَن تطحن رحاه حبًّا يخرج دقيقًا ينفع به نفسه وغيره، وأكثرهم يطحن رملًا وحصى وتبنًا، ونحو ذلك، فإذا جاء وقت العجن والخبز تبيَّن له حقيقة طحينه» (الداء والدواء).
وخواطر السوء من أهم وسائل الشيطان التي يستدرج بها العبد ويوقعه في الزلل، فيزين له الفعل ويوهمه بحسنه وعدم حرمته ثم يستدرجه خطوة خطوة حتى يقع في الحرام، فغالب من يقع من الكفر والردة -أعاذنا الله وإياكم- ما يبدأ بخاطر بسيط حول وحدانية الله ووجوده، وما انزلقت أقدام في الزنى والعياذ بالله إلا بعد خاطر من تخييل جرّه إلى الكبيرة، وما أكل الناس الحرام إلا بعد ورود خواطر الغنى والحصول على الثروة فتطور حتى صار ذلك هدفاً بأي وسيلة كانت من حلال أو حرام.
قال الشاعر:
كل الحوادث مبدأها من النظر ومعظم النار من مستصغر الشرر
وقد قال ربي سبحانه وتعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور: 21).
فالخير كل الخير في مخالفة الهوى والشيطان، وإغلاق باب الوساوس الذي يحاولان فتحه.
إن الفرار من الفتن يحمي صاحبه من مقارفة الذنوب، والمستهين بالخواطر والأفكار قد يقع في الشبهات التي تؤدي إلى الوقوع في الحرام فيندم أشد الندم ويتمنى لو أنه أغلق باب الفكرة وظل بعيداً عن البلاء والفتنة.
ومن بعض أسباب تزايد الخواطر السيئة على العبد:
– ضعف تعظيم الله عز وجل ومراقبته، والتساهل مع النفس والانجرار مع أهوائها، وتقديم ما تحبه على محبّة اللّه ورسوله صلى الله عليه وسلم.
– طول الغفلة عن ذكر الله عز وجل وهجران كتابه، فالقرآن يحمل سياط التذكير الدائم واليقظة الدائمة.
– التكاسل عن الطاعات وعدم أدائها على الوجه الذي يريده الله.
– الفراغ وعدم الانشغال بما هو نافع للفرد والمجتمع.
– حب الدنيا والحرص عليها وعلى شهواتها.
– التواجد في بيئة دنيوية غير صالحة تشحن القلب والنفس بالشهوات وتمدهما بمواد المعصية وأدواتها.
كيف يتعامل المسلم مع خواطره وأفكاره؟
من أنجع السبل لمجاهدة الخواطر والأفكار شغل النفس بالخير والحق دائماً، فالخاطر إذا وَجَد نفسًا فارغة تمكَّن منها، ووضع فيها سمومه.
فأنفع الدواء أن تشغل نفسك بالتفكير فيما ينجيك يوم القيامة ويقربك إلى الله تعالى، وقد ذكر ابن القيم رحمه الله في الداء والدواء أن خطرات العاقل لا تتجاوز واحدًا من خمسة أمور:
1- الفكرة في آيات الله المنزلة وتعقُّلها، وفَهم مراده منها؛ ولذلك أنزلها الله تعالى لا لمجرد تلاوتها، بل التلاوة وسيلة؛ قال بعض السلف: أنزل الله القرآن ليُعمل به، فاتخذوا تلاوته عملاً.
2- الفكرة في آياته المشهودة من أرض وسماء، وبحار وأنهار، وماء وهواء.. والاستدلال بذلك على الله وحكمته وإحسانه، وبرِّه وجُوده، فالله تعالى قد حض على ذلك وذم الغافل عن ذلك: ﴿إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ (آل عمران: 190)، تلا النبي صلى الله عليه وسلم هذه الآيات وقال: «ويل لمن قرأها ولم يتفكَّر فيها» (رواه ابن حبان، وغيره وحسَّنه الألباني في التعليقات الحِسان).
3- الفكرة في آلائه وإحسانه، وإنعامه على خلقه بأصناف النعم، وهذه الثلاث تستخرج من القلب معرفة الله ومحبته وخوفه ورجاءه.
4- الفكرة في عيوب النفس وآفاتها، وهذه الفكرة باب كل خير، وتأثيرها في كسر النفس الأمَّارة بالسوء، ومتى كُسِرت عاشت النفس المطمئنة، وانتعشت وصار الحكم لها، وسعِد الإنسان في الدنيا والآخرة.
5- الفكرة في واجب الوقت ووظيفته، فجميع المصالح إنما تَنشأ من الوقت، وإن ضاع لم يُستدرك أبدًا، والله سائلنا عنه يوم القيامة.
وما سوى هذه الأمور الخمسة فهو أمانيّ باطلة ووساوس شيطان وخدع كاذبة.