لا تدينُ الأيامُ بمبدأ التَّـشَابُه والتَّـمَاثل والرُّكون إلى وتيرةٍ واحدة، وإنما تتغير من حالٍ إلى حال ومن شأنٍ إلى آخر، وتغيرت الحالُ بمكة يوم طالعها القدر بأجسم(1) خبر: إنَّ محمدًا بن عبدالله يُبشِّرُ بدين جديد.
وراحت أخبارُ هذا الدين تتغشَّى شعاب مكة رهوةً شذية(2)، وتشيعُ الراحة والسكينة في كل نفسٍ حسنةِ الطوية(3)، وترفع عنها الوحشة والملال، وتخرجها عن مألوفِ عاداتِ قريش المتأصلة في الغي والضَّلالِ، وهكذا تغيرت نفسُ الفتى القرشيِّ عبدالله بن سُهيلٍ بن عمرو العامري(4)، وما سَلَخَ(5) من عمرِهِ سوى أربعة عشر عامًا، وأشرقتْ في نفسِهِ يقظةٌ جلجلتْ بصياحٍ سعيدٍ عبَّرَ عنه سعيُهُ في اتباع الدين الجديد.
وكان أبوه سُهيلٍ بن عمرو العامري(6) لسانَ المُكيدين لمحمدٍ ودعوتِهِ، هكذا كان هو وكذلك يجب أن يجيء ولدُهُ حسب رؤيتِهِ، وأخفى الفتى أمره عن أبيه، وربما عن جميع آلِهِ وذويهِ، ولما أَسْرَفَتْ(7) قريش في سفهِها واشْتَطْتْ في خَرَقَها(8) حثَّ النبي صلى الله عليه وسلم أصحابَهُ المستضعفين على خوض القفر والبحر ميممين صوب الحبشةِ، فارين من عدو يصادر حريتَهُم الدينية، ومطالبين بحق عبادتِهم لرب ترفضه قريش في تعنت وعناد، ونَبَذَ(9) عبدالله بن سهيل دنياه، وهاجر مع المهاجرين راغبًا فيما عند الله، ومرَّ زمنٌ يعلم الله مداه، وعاد المهاجرون إلى مكة، وانتفض سهيل بن عمرو لتوِّهِ وراح يَعنُف بولدِهِ حينًا ويَلْطُف به آخر، ويعيب عليه تركه لدين آبائِهِ وأجدادِهِ.
فيُطوِّف عبدالله بأبيه حول هذه المعاني: يا أبتي، إنَّ محمدًا يدعو لعبادة الإله الواحد الخالق، فلا الأصنامُ هي التي خلقتْنا، ولا نحن خُلِقْنا من تلقاءِ أنفسِنا، ولا بدَّ أن تعمد الأرض إلى طُهْرِها وتلفظ هذه الآلهة الزائفة من فوق ظهرِها.
ولمَّا أعيا أباه أمرُه حبسَهُ مقيدًا في الأغلال، وفي محبسِهِ يقبع عبداللهِ مترقبًا ومترصدًا شوارد الأخبارِ، ويحدثُ نفسَهَ: لو اتَّسمتْ قريش بالعدل واتَّصفتْ بالإنصاف لاهتزَّ ضميرها، ولحدث تحول حاسم وسريع في أمرها.
وذات يومٍ هبَّ على قلبِهِ خبرٌ كعاصفةٍ هوجاء لفحتْهُ بشظاها(10): إنَّ محمدًا هاجر بأصحابِهِ إلى يثرب، وما ذاكَ إلَّا لأنَّه عانى من تضييق قريش كما يعاني كل داعيةٍ في عصر كلِ طاغيةٍ، فشعرَ بقلبِهِ وكأنَّهُ ينتفض وثبًا، ويكاد يقفز من صدرِهِ إلى يثرب شوقًا، فلاذ بفكرة التَّظاهر بالتراجع عن الإسلام ريثما يُهيئ الله له مخرجًا، ولمَّا قررت قريش الخروج لحرب محمدٍ، لم يستطع عبدالله أن يضع أصبعه في أذنِهِ ماضيًا عن فكرة الدفاع عن الإسلام جاعلًا ظهره إليها، فحدَّث أباه: يا أبتي، حسبي منزلةً أنْزِلُها، وفضيلةً أحْرِزُها أن أخرج معكم لحرب محمدٍ.
وإنَّ جهل المرء بأسرارِ قدرِه جعل سُهيلاً لا يشكُّ في أمر ولدِهِ، وعلى ساحة بدر تراءى الجمعان.. جمع الله، وجمع الشيطان.. وقبل أن تَزْأَر الحرب انحاز عبدالله إلى المسلمين، وأبْلَى فيها ضدَّ المشركين، وراح غَزْوُهُ يتوالى مع النبي في سعي لصق سيرته بالسمو والرقي.
وتواردتْ خمسةُ أعوامٍ، حتى وقف التاريخ في يوم الحديبية، وكان سهيل أحد أشراف قريش وعقلائِهم، فأرسلتْهُ مفاوضًا عنها، وعندما رآهُ النبي قال لأصحابِهِ: «لقد سَهُلَ لكم مِن أمرِكم»(11)، وكان لسهيلٍ حنكة(12) وحكمةٌ أثمرا في صلح الحديبيةِ.
ويوم فتح مكة، وبينما كان المشركون على وجوهِهم هائمين، وإلى سماحةِ النبي متشوِّقينَ قصد عبدالله النبيَّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَبِي تؤّمنُهُ؟ فَردَّ السَّمْحُ الكريمُ: «نعم، هُوَ آمن بأمانِ اللهِ، فليظهرْ».
ثم حدَّث صلى اللهُ عليه وسلم أصحابَهُ: «من رأى سُهَيْلًا بن عمرو فلا يشدّ إِليه النَّظر، فلعمري إِنَّ سُهَيْلًا له عقل وشرف، وما مثل سُهَيْلٍ جهل الإسلام، ولقد رأى ما كان يوضعُ فيه أنَّه لم يكن بِنَافِعِهِ»(13).
يعني النبي صلى الله عليه وسلم أن سهيلًا بات يقينًا من أن مواقفه التي كان يقوم فيها خطيبًا لقريش ضدَّه لم تغنِ عنه أو عنهم شيئًا، ولم يجنِ منها له أو لهم نفعًا.
وهرول عبداللَّه إلى أَبِيهِ بالعفو النبوي، فقال سهيل مبينًا خصلة من أخصِّ الخصال النبويَّة الشريفة: كان والله برًا صغيرًا وكبيرًا.
وصعد النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربِهِ، وأكمل عبدالله على دربِه، وفي «يوم اليمامة» خرج متشوقًا إلى الشهادة، وراح يرسم لوحة تبدَّت فيها عبقرية القتال، ولكن آَنَ للشهيد أن يبحر بشوقِهِ، ويصعد مجيدًا إلى ربهِ، وهو في الثامنة والثلاثين من عمرِهِ، وسيبقى ذِكْرُهُ مستعصيًا على الخمولِ، وأنَّى يجد الخمولُ إلى ذكراه سبيلًا وعلى هام سيرتِهِ تشرق الكلمات: عاش سبَّاقًا بدريًّا، ورحل شهيدًا نبيلًا.
أمَّا أبوه سهيل بن عمرو فمنذ عانق نور الحق شغاف قلبه، أخذ مكانه الأليق تحت راية الإسلام، ومرت سنوات ذوات عدد وهو يخلص لها، ويبذل نفسه غاية في إعلائها، وعلى طولها وعرضها يَجْتَرُّ ذكرى ولده، ويردد: بلغني قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يشفَّعُ الشَّهيدُ في سبعينَ من أَهلِ بيتِهِ»(14)، ويرجو ألَّا يبدأَ ولدُهُ بأحدٍ من قبلِهِ.
________________________
(1) أهم وأخطر خبر.
(2) ليِّـنة عطرة.
(3) طيب النيَّـة نقي الضمير.
(4) طبقات ابن سعد (3/ 1/ 295)، الجرح والتعديل (5/ 67)، تاريخ الإسلام (2/ 26)، الإصابة (4754)، الاستيعاب (1586)، أسد الغابة (2997).
(5) سَلَخَ الوَقْتُ: مضى.
(6) أسد الغابة (2326)، الإصابة (3586)، الاستيعاب (1111)، تاريخ الإسلام (2/ 26).
(7) بالغت وجاوزت الحد في الظلم.
(8) حمقها.
(9) ترك وهجر.
(10) أصابته بحرِّها وغبارها المتطاير.
(11) حديث صحيح: أخرجه البخاري (2731).
(12) تجربة وبصر بالأمور.
(13) انظر: السيرة الحلبية (3/ 56)، ونور اليقين في سيرة سيد المرسلين (ص 215)، ومغازي الواقدي (2/ 747)، والبداية والنهاية (4/ 239).
(14) حديث صحيح: صححه الألباني في صحيح الجامع (8093)، وصحيح أبي داود (2522).