قبل القرن العشرين لم تكن هناك رغبة من دول الجنوب للهجرة صوب الشمال، لكن على مدار 5 قرون ممتدة من القرن الخامس عشر حتى بداية القرن العشرين، أصبحت هناك حاجة ماسة للغرب لاستجلاب أيدٍ عاملة؛ فقامت باختطافهم كعبيد مقيدين بالأغلال عبر البحار نحو الشمال.
في رحلتي إلى جزيرة زنجبار كان على رأس أولوياتي زيارة سوق العبيد، الذي كان مركزاً رئيساً لتصدير العبيد من شرق أفريقيا.
شققت الطرق والحارات الضيقة الملتوية داخل مركز الجزيرة التاريخي المُدرَج على قائمة «يونيسكو» للتراث العالمي، وكنت كأنني أسير في إحدى المدن في سلطة عُمان؛ حيث اللباس العماني للرجال والنساء وسائر التقاليد العمانية ما زالت سائدة رغم إنهاء الحكم العربي للجزيرة بمجزرة تطهير عرقي عام 1964م، ووصلت إلى بغيتي حيث يقع سوق العبيد الذي تحول إلى متحف ومزار سياحي، وبعد حصولي على تذكرة الدخول، وبمجرد تجاوزي بوابة الدخول وجدت على يساري لوحة مصورة لصبي أفريقي مكبل بالأصفاد ومكتوب تحت الصورة: «جريمة بسيطة من جرائم السيد العربي ضد صبي من العبيد»!
وبعده لوحة كبيرة مرسومة تصور رجالاً بلباسهم العربي وهم يصيدون العبيد من العمق الأفريقي، ويقودونهم جماعات مقرنين في الأصفاد حتى الساحل الأفريقي ومنه إلى جزيرة زنجبار، ومكتوب في اللوحة: «العرب كَوَّنوا ثروات طائلة من التجارة في العبيد والعاج».
وبجوار اللوحتين لوحة أخرى بها صورة رجل إنجليزي مكتوب تحتها: «السياسي الإنجليزي وليام ويلبرفورس، قائد مكافحة استرقاق العبيد».
ولكي يستكمِل الإنجليز الحبكة الدرامية بين مجرم عربي يتاجر في العبيد ورسل الرحمة الإنجليز المبعوثين لتحريرهم، أقاموا كنيسة كبيرة في المكان نفسه كرمز لدور بريطانيا في إلغاء الرق!
خرجتُ من المكان وفي حلقي غُصَّة نحو تلك الجريمة النكراء، وغصة أخرى بسبب جرأة المجرم الجاني في إلصاق جريمته لغيره.
بعد تلك التجربة جعلتُ ضمن أهدافي من الترحال في أوروبا البحث عن آثار تجارتهم للعبيد، وكانت إحدى هذه المحاولات في هولندا التي كانت واحدة من الدول الاستعمارية التي احتلت أجزاء من أمريكا الجنوبية وأجزاء من شرق آسيا، وكانت تستجلب العبيد من مراكز تجميعهم، ومنها زنجبار وتنقلهم إلى جزيرة «كوراسو» جنوب البحر الكاريبي، ثم تنقلهم إلى «نيو أمستردام» التي أصبح اسمها الآن «نيويورك»، والقسم الأكبر تنقله إلى «سورينام» المستعمرة الهولندية الرئيسة الواقعة على الساحل الشرقي لأمريكا الجنوبية.
حاولت أن أقف على تاريخ هولندا العريق في تجارة العبيد من خلال زيارة متاحفها، دخلت المتحف الوطني (Rijiks)، والمتحف التاريخي، وتفحصتهما جيدا؛ فلم أجد فيهما شيئاً، فتوجهتُ إلى متحف البحرية الهولندية لعلني أجد بُغيَتي، فوجدته يصف أمجاد هولندا في سيادة البحار، ويتحدث عن معاركه الحربية، وخطوط تجارته وبضاعته التي ينقلها، ولم أجد أي أثر لعلاقة هولندا بتجارة العبيد!
وفي المتحف الوطني الهولندي (Rijiks)، خطفت عيني لوحة فنية داخل إطار ذهبي، للفنان «Isaac Israels»، اللوحة تبدو معتمة إلا مِن بريق ميدالية ووشاح، ويبدو فيها وجه شاحب لرجل أفريقي أسود، وراسم اللوحة يتعمد إلقاء الضوء على الميدالية والوشاح، وإخفاء الوجه الأسود في خلفية اللوحة المعتمة.
انفعلتُ كثيراً بالإيحاءات التي عكستها الصورة في ذهني، وبدأتُ التقصي عن هذا الرجل الأفريقي المرسوم في اللوحة، وتبين لي أنه جندي أفريقي من جنود ما يُسمى بالمستعمرات، تم استجلابه من غانا للقتال تحت إمرة الهولنديين لقمع الثوار في إندونيسيا، وقد كرمته هولندا على خدماته الجليلة في قمع إخوانه المستعبَدين مثله، وقلدته ميدالية ووشاحًا!
وفي متحف التاريخ الوطني اليوناني في العاصمة أثينا، وقفت مندهشاً أمام صورة منزوية في قسم الحرب العالمية الأولى والثانية في المتحف، يظهر فيها جنود وجوههم عربية وأفريقية وآسيوية، ساقني فضول معرفة وجودهم في قسم الحرب العالمية من المتحف، فبدأت أقرأ التعليق على الصور؛ فوجدتُ أن الدول الاستعمارية وعلى رأسها إنجلترا وفرنسا، بعد أن اشتدت المعارك وأوشكت على الهزيمة بدأت في استجلاب جنود من أهل البلاد التي كانوا يحتلونها، وفرنسا وحدها استجلبت ستمائة ألف جندي في الحرب العالمية الأولى فقط من مستعمراتها في المغرب العربي وأفريقيا، ووضعتهم في الصفوف الأمامية في ظروف بالغة القسوة، نتج عنها وفاة معظمهم، وكان لهؤلاء الدور الحاسم في تحويل هزيمة فرنسا إلى نصر، وكان نصيبهم الإخفاء القسري من كُتُب التاريخ حتى تستأثر فرنسا بنيشان النصر.
بمنطق اللوحة الفنية نفسه التي رسمها الهولندي للأفريقي، والتي سلط فيها الضوء على الميدالية والوشاح الهولندي، واضعا وجه الأفريقي في العتمة، وبمنطق الإنجليز نفسه في متحف زنجبار بطمس جريمتهم وإلصاقها بالعرب، وبمنطق الفرنسيين نفسه في الإخفاء القسري لدور جنود المستعمرات في بناء انتصاراتهم، يقومون اليوم بإخفاء جرائمهم في نهب مقدرات الشعوب، وتأجيج الصراعات بينها، ويُلقون التهمة على الشعوب المنهوبة ويُسَمون طريقهم للخلاص: «هجرة غير شرعية»!