حتى نضبط نظرتنا لدور كل من المعلم والوالدين، وندرك المراد من صريح أمر الله تعالى ببر الوالدين بعد الأمر بعبادته في مواضع من الكتاب العزيز التي منها: (وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (النساء: 36).
وإن كنا نقرُّ أن الصالحين من الوالدين والمعلمين نعمة، فإن نعمة الله -عَزَّ وَجَلَّ على الإنسان تُختَصر في محورين:
1- الإيجاد والإمداد؛ والإيجاد معناه الخلق من عدم، والإمداد يعني بمقومات الحياة لإصلاح العيش.
2- الهداية والإرشاد، ولهما طريقان:
أ- هداية وإرشاد لأمر الدنيا؛ (قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى) (طه: 50)، ومعنى الهداية هنا هداه لمقومات حياته!
ب- وهداية وإرشاد لإصلاح أمر الآخرة؛ فأرسل -جَلَّ جَلَالُهُ الرسلَ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ وأنزل الكتب لهداية المكلفين، وتلك أكبر النعم.
وفضل الوالدين يعظم بسعيهم في سهم التربية والتعليم ولو بالنفقة والتوجيه، وبذلك يكون فضلهما لا يعدله فضل بعد الله عَزَّ وَجَلَّ ورسوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ.
فإن قَصَّرَا في تعليم أبنائهما وإرشادهم لما تصلح به آخرتهم، ففضلهما وقتئذ مقتصر على سبب الإيجاد وأمر المعيشة في الإمداد، ويفضلهما المعلم بسبب إمداده تلاميذه ما يصلح به أمر الدارين، وذلك أعظم الفضلين وأكبر النعمتين.
وهذا لا يتعارض مع آيات الأمر ببرهما، فبرهما باق وإن تقدم عليهما غيرهم بعمله على إصلاح أبنائه من جهة التعليم لا من جهة الصلب والرحم.
وبهذا كان حق النبي -عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَام أعظم؛ لأنه السبب في صلاح آخرتنا وتعريفنا بخالقنا جَلَّ وَعَلَا، و«العلماء ورثة الأنبياء»، والوراثة في مجالات:
1- حمل العلم النافع.
2- تبليغ الناس هدايات الوحيين، وتعليمهم ما ينفعهم في الدارين.
3- تحصيل أفضل الفضلين وأعلى المنزلتين.
وعلى هذا تُفهم النصوص الشريفة، في فضل الوالدين والعلماء مثل: (وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً) (الإسراء: 23)، (يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ) (المجادلة: 11).
فالوالدان إن قصَّرا في إصلاح دين الأبناء واقتصرا على توفير مقومات المعيشة؛ فلا ينكر فضلهما في ذلك مع قصوره.
أما العلماء المعلمون من الربانيين فهم سبب صلاح الحياة الأبدية.
والوالدان إن أرشدا ووجَّها وأنفقا قدر وسعهما في التربية الدينية؛ أحرزا أعلى المراتب وأشرف المنازل.
ولا يخفى أن الوالد سبب إيجاد، والمعلم طريق الإمداد.
الإيجاد تتفاضل فيه الأنعام، والإمداد أعظم الإنعام.
الوالد إن قصر في التربية يعطي سمكة للمعيشة، والمعلم يعلمك كيف تصيدها.
قال يحيى بن معاذ الرازي (ت 258هـ): العلماء أرأفُ بأمَّةِ محمد صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من آبائهم وأمهاتهم؛ لأنهم يحفظونهم من نار الآخرة وأهوالها، وآباؤهم وأمَّهاتهم يحفظونهم من الدنيا وآفاتها.
وقال السخاوي: يعني إذا كانوا علماء فإن الجهال لا يحفظونهم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
وكان الإمام الكسائي (ت 189هـ) مؤدباً لابني الخليفة هارون الرشيد (ت 193هـ) الأمين، والمأمون، ويقال: إنه في ذات يوم كان يعلمهما، فقام الكسائيّ ليلبس نعله لحاجة يريدها، فابتدرها الأمين، والمأمون، فوضعاها بين يديه، فقبل رأسيهما، ثم أقسم عليهما ألا يعاودا، وتصادف أن رأى الرشيد ما فعل ولداه؛ فأعجبه ما رأى منهما، وفي اليوم التالي، سأل الخليفة هارون الرشيد معلم ولديه: ترى من أعز الناس؟ فقال الكسائي: أنت يا أمير المؤمنين، ومن أعز منك! قال الرشيد: بل أعز الناس من يتسابق وليا عهد أمير المؤمنين لتقديم الحذاء له وإلباسه إياه، ولقد سرني ما قاما به، وإن المرء لا يكبر عن ثلاث خصال؛ تواضعه لسلطانه ولوالديه ولمعلمه.
ولذلك صار حق المعلم أعظم من حق الوالدين، فإن الوالد سبب الوجود الحاضر والحياة الفانية، والمعلم سبب الحياة الباقية، ولولا المعلم لانساق ما حصل من جهة الأب إلى الهلاك الدائم، وإنما المعلم هو المفيد للحياة الأخروية الدائمة أعني معلم علوم الآخرة.
ومن إجلال العلماء كان إمام النحاة سيبويه (ت 180هـ) إذا ذكر قولاً لأستاذه الخليل بن أحمد الفراهيدي (ت 170هـ) في مسألة، وأراد أن يُخالفه فيها، قال: قال الخليل كذا، وقال بعضهم كذا وكذا وهو الصواب، ويعني ببعضهم نفسه، يتأدب أن يبوح باسمه في معرض مخالفة شيخه وأستاذه.
وفي مؤلفات ابن القيم (ت 751هـ) إذا ذكر شيخه أبو العباس ابن تيمية (ت 728هـ) يقول: قال الشيخ قدَّس الله روحه، ومرة يزيد عليها فيقول: قدَّس الله روحه في الجنة.
وقال الحسن البصري (ت 110هـ): لولا العلماء -أي المعلمون– لصار الناس مثل البهائم! أي: أنهم بالتعليم يخرجونهم من حضيض البهيميَّة إلى أفق الإنسانيَّة.
وجاءت الأحاديث بتوقير العلماء، وإكرامهم حتى بعد موتهم.
قيل للإسكندر: ما بالك تعظم مؤدبك أكثر من تعظيمك لأبيك؟ فقال: إن أبي سبب حياتي الفانية، ومؤدبي سبب حياتي الباقية.
وفي المفاضلة بين المعلم والأب يقول الشاعر:
أفضِّل أستاذي على فَضل والدي وإن نالني من والدي المجدُ والشرف
فهدا مُرَبي الروحِ والروحُ جوهرٌ وذاك مربي الجسم والجسمُ كالصدف
وقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ليس منا من لم يجل كبيرنا ويرحم صغيرنا ويعرف لعالمنا حقه»، وقد قيل: إذا أنت أكرمت الكريم ملكته؛ أي أصبح أسيراً لإحسانك وجميلك بعد الله تعالى.
قال الخطيب البغدادي (ت 463هـ): إذا تعلم الإنسان من العالم، واستفاد منه الفوائد، فهو له عبد، قال الله تعالى: (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ) (الكهف: 60) وهو يوشع بن نون، ولم يكن مملوكاً له، وإنما كان تلميذاً له، متبعاً له، فجعله الله فتاه لذلك.
وكلمة «فتاه» تطلق على العبد، لكن المراد به هنا عبد الإحسان والفضل، وعلى هذا يفهم قول شعبة بن الحجاج (ت 160هـ): كل من سَمِعت مِنْهُ حَدِيثاً فَأَنا لَهُ عبد، وقد ترتفع منزلة الإنسان بالعلم والأدب ما لا ترتفع بالنسب.
فعن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ أَبْطَأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ».
وقيل: والمرء من حيث يوجد لا من حيث يولد، والإنسان من حيث يثبت لا من حيث ينبت.
وقال بعض البلغاء: الفضل بالعقل والأدب، لا بالأصل والحسب؛ لأن من ساء أدبه ضاع نسبه، ومن قل عقله ضل أصله.
وقال أمير الشعراء أحمد شوقي رَحِمَهُ اللَّهُ في تكريم المعلم:
قـم للمعلم وفِّـــــــــــه التبجيـــلا كاد المعلم أن يكون رسولا
أرأيت أعظم أو أجلَّ من الذي يبني وينشئ أنفساً وعقولا؟!
ومع عظيم حق الوالدين؛ فإن برَّ مربي العقل أولى من برِّ مربي الجسم، إلا أن يجمع الوالدان بين الفضيلتين.
ومع اتفاق المسلمين على تفضيل من اهتم بأمر الدين على أي حال سواء كان والداً أو معلماً، فمن الأفاضل من يرى انتفاء المقارنة، وأن حقوق المعلم أو الوالدين لا تتنافى فيلغي أحدهما حق الآخر، وأنها مقامات تتفق ولا تتمايز، وهذا مسلك لا بأس به أيضًا، فمن ذهب المذهب الأول غاية مراده إثبات التوقير للمعلم بحقه في تغذية العقل؛ في مقابل حق الوالد الذي اعتنى بجسم وصحة وليده، ولعله من باب استعمال قياس هذا على ذاك لإثبات فضل المعلم وليس للحط من قدر بر الوالدين، ولا ضير في ذلك؛ لأنه لا يتصور عقل سليم إلا في جسم سليمّ، كما هو شائع.
والذي يوقر مُعلمَه حتماً سيكون كذلك مع والديه، والعكس بالعكس معقول، وهذا قريب من جدلية حب الأم وحب الزوجة وحب الأولاد وغير ذلك؛ فلا ينفي هذا وجود ذاك، والأمران من باب الفضائل التي لا تتجزأ وجودًا أو عدمًا، بل هي متناسبة طردياً ولا يتصور تناسبها عكسيًا.
_______________________________
1- رزق الله بن يعقوب شيخو (ت 1346هـ) مجاني الأدب في حدائق العرب (1/ 20- 21).
2- خالد الخراز (معاصر) موسوعة الأخلاق، ص324.
3- محمد بن عبد الله باموسى (معاصر)، إسعاف الأخيار بما اشتهر ولم يصح من الأحاديث والآثار والقصص والأشعار (2/ 64).
4- أحمد بن حنبل (ت 241هـ)، العلل ومعرفة الرجال، رواية ابنه عبدالله (2/ 448).
5- مسند الشهاب القضاعي (1/ 245).
6- أبو منصور الثعالبي (ت 429هـ) يتيمة الدهر (4/ 311).
7- الماوردي (ت 450هـ)، أدب الدنيا والدين، ص232.
8- الأبشيهي أبو الفتح (ت 852هـ)، المستطرف في كل فن مستطرف، ص31.