ما إن علمت الجزيرة العربية بوفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حتى ارتدت، ولم يبقَ على الإسلام إلا المدينة المنورة ومكة والطائف، ولكنَّ الله مَنَّ على هذه الأمة بالصِّدِّيق أبي بكر، الذي استطاع أن يقمع فتنة المشركين والمرتدين.
كان من الممكن أن تكون لهذه الفتنة العظيمة آثارٌ وخيمة، لولا أن الله مَنّ على الأمَّة في ذلك الوقت بنعمة عظيمة هائلة، تلك هي نعمة الصِّدِّيق، فالله أيَّد به هذه الأمة، وحفظ به الدين والقرآن، وقمع به المشركين والمرتدين. يقول أبو هريرة يصف هذا الموقف المتأزم: “والله الذي لا إله إلا هو، لولا أن أبا بكر استُخْلِفَ ما عُبِد اللهُ”. ولا ننسى أن مصيبة الردة هذه جاءت بعد أيام قلائل من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا شك أن مصاب الصِّدِّيق كان كبيرًا، فهو أقرب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشدهم حزنًا على فراقه، ولكن الله رزقه نعمة الثبات، والثبات نعمة جليلة لا توهب إلا لمن كان مؤمنًا حقًّا.
وكان موقف الصديق بأن قام ـ رضي الله عنه ـ في الناس خطيباً، فحمد الله، وأثنى عليه، ثمَّ قال: الحمد لله الَّذي هدى فكفى، وأعطى فأغنى، إنَّ الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم والعلم شريدٌ، والإِسلام غريبٌ طريدٌ، قد رثَّ حبله، وخلِق ثوبه، وضلَّ أهله منه، ومقت الله أهل الكتاب، فلا يعطيهم خيراً لخيرٍ عندهم، ولا يصرف عنهم شرّاً لشرٍّ عندهم، وقد غيَّروا كتابهم، وألحقوا فيه ما ليس منه، والعرب الآمنون يحسبون: أنَّهم في منعةٍ من الله؛ لا يعبدونه، ولا يدعونه، فأجهدهم عيشاً، وأظلَّهم ديناً، في ظلفٍ من الأرض مع ما فيه من السَّحاب، فختمهم الله بمحمَّد، وجعلهم الأمَّة الوسطى، ونصرهم بمن اتَّبعهم، ونصرهم على غيرهم، حتَّى قبض الله نبيَّه، فركب منهم الشَّيطان مركبه، الذي أُنزل عليه، وأخذ بأيديهم، وبغى هلكتهم: {وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ *} [آل عمران: 144] .
إِنَّ مَنْ حولكم من العرب قد منعوا شاتهم، وبعيرهم، ولم يكونوا في دينهم ـ وإن رجعوا إليه ـ أزهد منهم يومهم هذا، ولم تكونوا في دينكم أقوى منكم يومكم هذا على ما قد تقدَّم من بركة نبيِّكم، وقد وكَّلكم إلى المولى الكافي الَّذي وجده ضالاًّ فهداه، وعائلاً فأغناه: {وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا} [آل عمران: 103].
واللهِ! لا أدع أن أقاتل على أمر الله حتَّى ينجز الله وعدَه، ويوفي لنا عهدَه، ويُقتل مَنْ قُتل منا شهيداً من أهل الجنَّة، ويبقى مَنْ بقي منّا خليفته، وذرِّيته في أرضه، قضاء الله الحقُّ، وقوله الذي لا خلف له: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ليستحلفنهم فِي الأَرْضِ} [النور: 55] .
وقد أشار بعض الصَّحابة، ومنهم عمر على الصِّدِّيق بأن يترك مانعي الزَّكاة، وتألفهم حتَّى يتمكَّن الإِيمان من قلوبهم، ثمَّ هم بعد ذلك يزكُّون، فامتنع الصِّدِّيق عن ذلك، وأباه.
فعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: لمَّا توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكرٍ ـ رضي الله عنه ـ وكفر مَنْ كفر من العرب، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ: كيف تقاتل النَّاس وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « أمرت أن أقاتل النَّاس حتَّى يقولوا لا إِله إِلا الله، فمن قالها؛ فقد عصم منِّي ماله، ونفسه إِلا بحقِّه، وحسابُه على الله ». فقال: والله! لا قاتلن مَنْ فرَّق بين الصَّلاة والزَّكاة، فإِنَّ الزكاة حقُّ المال، والله! لو منعوني عَناقاً كانوا يؤدُّونها إِلى رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقاتلتهم على منعها . وفي روايةٍ: والله! لو منعوني عِقالاً كانوا يؤدُّونه إِلى رسول الله؛ لقاتلتهم على منعه . قال عمر: فوالله ما هو إِلا أن قد شرح الله صدر أبي بكرٍ، فعرفت: أنَّه الحقُّ، ثمَّ قال عمر بعد ذلك: والله! لقد رجح إِيمان أبي بكر بإِيمان هذه الأمَّة جميعاً في قتال أهل الردَّة.
وبذلك يكون أبو بكر قد كشف لعمر ـ وهو يناقشه ـ عن ناحية فقهيَّةٍ مهمَّةٍ أجلاها له، وكانت قد غابت عنه، وهي أنَّ جملةً جاءت في الحديث النَّبويِّ الشريف الَّذي احتجَّ به عمر هي الدَّليل على وجوب محاربة مَنْ منع الزَّكاة حتَّى وإِن نطق بالشَّهادتين، وهي قول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم: « فإِذا قالوها؛ عصموا منِّي دماءهم، وأموالهم إِلا بحقِّها ».
وفعلاً كان رأي أبي بكرٍ في حرب المرتدِّين رأياً ملهماً، وهو الرَّأي الَّذي تمليه طبيعة الموقف لمصلحة الإِسلام والمسلمين، وأيُّ موقفٍ غيره سيكون فيه الفشل، والضَّياع والهزيمة والرُّجوع إِلى الجاهلية، ولولا الله، ثمَّ هذا القرار الحاسم من أبي بكرٍ لتغيَّر وجه التاريخ، وتحوَّلت مسيرته، ورجعت عقارب السَّاعة إِلى الوراء، ولعادة الجاهليَّة تعيث في الأرض فساداً.
لقد تجلَّى فهمه الدَّقيق للإِسلام، وشدَّة غيرته على هذا الدِّين، وبقاؤه على ما كان عليه في عهد نبيِّه في الكلمة الَّتي فاض بها لسانُه، ونطق بها جنانه، وهي الكلمة الَّتي تساوي خطبةً بليغةً طويلةً، وكتاباً حافلاً، وهي قوله عندما امتنع كثيرٌ من قبائل العرب أن يدفعوا الزَّكاة إِلى بيت المال، أو منعوها مطلقاً، وأنكروا فرضيَّتها: قد انقطع الوحي، وتمَّ الدِّين، أينقص وأنا حيٌّ؟! وفي روايةٍ: قال عمر: فقلت: يا خليفة رسول الله تألَّفِ النَّاس، وارفق بهم . فقال لي: أجبَّارٌ في الجاهلية خوَّارٌ في الإِسلام، قد انقطع الوحي، وتمَّ الدِّين، أينقص وأنا حيٌّ؟!.
لقد سمع أبو بكر وجهات نظر الصَّحابة في حرب المرتدِّين، وما عزم على خوض الحرب إِلا بعد أن سمع وجهات النَّظر بوضوحٍ، إِلا أنَّه كان سريع القرار، حاسم الرأي، فلم يتردَّد لحظةً واحدةً بعد ظهور الصَّواب له، وعدم التردُّد كان سمةً بارزةً من سمات أبي بكرٍ ـ هذا الخليفة العظيم ـ في حياته كلِّها، ولقد اقتنع المسلمون بصحَّة رأيه، ورجعوا إلى قوله، واستصوبوه.
لقد كان أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ أبعد الصَّحابة نظراً، وأحقَّهم فهماً، وأربطهم جناناً في هذه الطَّامَّة العظيمة، والمفاجأة المذهلة، ومن هنا أتى قول سعيد بن المسيِّب ـ رحمه الله ـ: وكان أفقههم ـ يعني: الصَّحابة ـ وأمثلهم رأياً.
إِنَّ أبا بكر كان أنفذ بصيرةً من جميع مَنْ حوله؛ لأنَّه فهم بإِيمانه الَّذي فاق إِيمانهم جميعاً: أنَّ الزَّكاة لا تنفصل عن الشَّهادتين، فمن أقرَّ لله بالوحدانيَّة لا بدَّ أن يقرَّ له بما يفرض من حقٍّ في ماله، الذي هو مال الله أصلاً، وأنَّ «لا إِله إِلا الله» بغير زكاةٍ لا وزن لها في حياة الشعوب، وأنَّ السَّيف يشرع دفاعاً عن أدائها تماماً، كما يشرع دفاعاً عن «لا إِله إِلا الله» تماماً، هذه كتلك. هذا هو الإِسلام وغير هذا ليس من الإِسلام، فقد توعَّد الله أولئك الَّذين يؤمنون ببعض الكتاب، ويكفرون ببعض، قال تعالى: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ *} [البقرة: 85] .
_____________________
- د. علي محمّد محمَّد الصَّلاَّبي، الانشراح ورفع الضيق في سيرة أبو بكر الصديق، شخصيته وعصره، دار ابن كثير، دمشق، ص (180 : 183).
- عز الدِّين التَّميمي، الشُّورى بين الأصالة والمعاصرة، دار البشير، الطَّبعة الأولى 1405هـ 1985م، ص86 – 87 .
- د. علي العتوم، حركة الردَّة، مكتبة الرسالة الحديثة، عمَّان، الطَّبعة الثَّانية، 1997م ، ص165.
- ابن كثير، البداية والنِّهاية، دار الرَّيَّان، القاهرة، الطَّبعة الأولى 1408هـ ، 1988م، 6/315 – 316.
- محمَّد أحمد باشميل، حروب الردَّة، دار الفكر، الطَّبعة الأولى 1399هـ 1979م، ص24.
- محمود شلبي، حياة أبي بكرٍ، محمود شلبي، دار الجيل، بيروت، الطَّبعة الأولى، 1979م، ص123.
- مسلم، صحيح مسلم، تحقيق محمَّد فؤاد عبد الباقي، دار إِحياء التراث العربي، بيروت ـ لبنان، الطَّبعة الثانية 1972م، رقم (20)، رقم (21).