هذه القصة العظيمة أصبحت مثلًا يحكى عما يحدث من صراع بين العلماء والسلاطين، وما يكون فيها من كرامة العلماء أولياء الله ومستبدي السلاطين الذين يخافون على الدنيا والملك أكثر مما يخافون من الله تعالى.
أرسل الحجاج بن يوسف جندًا إلى سعيد بن جبير -وهو من سادة التابعين- ليأتوا به، فأصابه رسل الحجاج بمكة، فلما ساروا به ثلاثة أيام رأوه يصوم نهاره، ويقوم ليله، فقال أحدهم له: والله إني لأعلم أني أذهب بك إلى من يقتلك، فاذهب إلى أي طريق شئت، فقال له سعيد: إنه سيبلغ الحجاج أنك قد أخذتني، فإن خلّيت عني خفت أن يقتلك، ولكن اذهب بي إليه.
قال: فذهب به، فلما دخل عليه قال له الحجاج: ما اسمك؟ قال: سعيد بن جبير، فقال: بل شقيّ بن كسير، فقال: أمّي سمّتني، قال: شقيت، قال: الغيب يعلمه غيرك، قال له الحجاج: أما والله لأبدلنّك من دنياك ناراً تلظّى، قال سعيد: لو علمت أن ذلك إليك ما اتخذت إلهاً غيرك، ثم قال له الحجاج: ما تقول في رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ قال: نبيٌّ مصطفى، خير الباقين وخير الماضين، قال: فما تقول في أبي بكر الصديق؟ قال: ثاني اثنين إذ هما في الغار أعزّ الله به الدين، وجمع به بعد الفرقة، قال: فما هو عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟ قال: فاروق وخيرة الله من خلقه، أحبَّ الله أن يعزّ الدين بأحد الرجلين، فكان أحقُّهما بالخيرة والفضيلة، قال: فما تقول في عثمان بن عفان؟ قال: مجهّز جيش العسرة، والمشتري بيتاً في الجنة، والمقتول ظلماً، قال: فما تقول في عليّ؟ قال: أوّلهم إسلاماً، وأكثرهم هجرة، تزوج بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم التي هي أحب بناته إليه، قال: فما تقول في معاوية؟ قال: كاتب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: فما تقول في الخلفاء منذ كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الآن؟ قال: سيُجزون بأعمالهم، فمسرورٌ ومثبور(1)، ولست عليهم بوكيل، قال: فما تقول في عبدالملك بن مروان؟ قال: إن يكن محسناً فعند الله ثواب إحسانه، وإن يكن مسيئاً فلن يعجز الله.
قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنت بنفسك أعلم، قال: بثَّ فيَّ علمك، قال: إذاً أسوؤك ولا أسرّك، قال: بثَّ، قال: نعم، ظهر منك جورٌ في حدّ الله، وجرأة على معاصيه بقتلك أولياء الله، قال: والله لأقطّعنك قطعاً، وأفرِّقنَّ أعضاءك عضواً عضواً، قال: إذاً تفسد عليّ دنياي، وأفسد عليك آخرتك، والقصاص أمامك، قال: الويل لك من الله، قال: الويل لمن زحزح عن الجنة وأدخل النار، قال: اذهبوا به فاضربوا عنقه، قال سعيد: إني أشهدك أني أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، أستحفظك بها حتى ألقاك يوم القيامة، فلما ذهبوا به ليقتل تبسّم، فقال له الحجاج: ممَّ ضحكت؟ قال: من جرأتك على الله عز وجل، فقال الحجاج: أضجعوه للذبح فأضجع فقال: (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِي لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ) (الأنعام: 79)، فقال: الحجاج: اقلبوا ظهره إلى القبلة، فقرأ سعيد: (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ) (البقرة: 115)، فقال: كبُّوه على وجهه، فقرأ سعيد: (مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى) (طه: 55)، فذبح من قفاه.
وعندما فبلغ ذلك الحسن بن أبي الحسن البصري فقال: اللهم يا قاسم الجبابرة اقسم الحجاج، فما بقي إلا ثلاثاً حتى وقع في جوفه الدود فمات.
وقد سمع كاتب الحجاج كلامه قبل أن يموت، فقال: «دخلت عليه يوماً بعد ما قتل سعيد بن جبير، وهو في قبة لها أربعة أبواب، فدخلت مما يلي ظهره، فسمعته يقول: ما لي ولسعيد بن جبير؟ فخرجت رويداً، وعلمت أنه إن علم بي قتلني، فلم ينشب الحجاج بعد ذلك إلا يسيراً».